عمر مختار حاج النور يكتب : *ملاحقة مجرمي مليشيا الدعم. السريع دولياً بين الممكن والمأمول(3__3)*
عمر مختار حاج النور يكتب :
*ملاحقة مجرمي مليشيا الدعم. السريع دولياً
بين الممكن والمأمول(3__3)*
مواصلة لما أوردناه بشأن ملاحقة وإسترداد الجناة الهاربين نشير إلى أن التعاون الدولي لمكافحة الجريمة أصبح ضرورة حتمية تفرضها طبيعة الجريمة في عالمنا المعاصر، إذ لم تعد الجريمة، – بما أتاحه التطور الهائل في وسائل الإتصال والإنتقال- حبيسة نطاق إقليمي ضيق بل تمتد آثارها لتطال مصالح عدة دول وشعوب ومع تقارب المسافات وسهولة حركة الأشخاص والأموال اضحي التعاون بين الدول أمراً لا غنى عنه لمواجهة هذه التحديات الأمنية.
تهتم أغلب الدول بهذا التعاون ليس فقط لأنه يحقق العدالة للضحايا، بل أيضاً لتفادي أن تجعل من أراضيها ملاذاً آمناً للفارين من وجه العدالة، الأمر الذي من شأنه أن يزعزع إستقرارها ويضر بسمعتها ويقوض سيادة القانون على أراضيها.
تخضع عملية تنفيذ إتفاقيات التعاون الأمني وتسليم المجرمين، بشكل أساسي للقوانين الوطنية الداخلية للدول ويحدد قانون تسليم المجرمين الوطني في كل دولة الإجراء القانوني الذي ينظم عملية التسليم، وشروطه، وموانعه، بمعنى أن تحدد الإتفاقية الدولية الإطار العام وتترك تفاصيل الإجراءآت التنفيذية للقوانين الوطنية الداخلية للدولة الطرف.
غالبا ما تلجأ الدول إلى إبرام إتفاقيات ثنائية أو متعددة الأطراف في مجال التعاون الأمني، وخاصة فيما يتعلق بتسليم المجرمين، مدفوعة بعدة عوامل منطقية تتسق مع المصالح المشتركة وتأتي في مقدمة هذه العوامل:
* العلاقات التجارية والإقتصادية المتنامية، حيث إن إستقرار البيئة الأمنية يعد شرطاً أساسياً لإزدهار التبادل التجاري والإستثماري.
* يمثل الوجود البشري المتبادل، سواء كان جاليات مقيمة أو حركة سياحية نشطة، دوراً هاماً في تحفيز هذا النوع من التعاون.
* سهولة الإنتقال عبر الحدود المشتركة قد تفرض على الدول المتجاورة تنسيق جهودها لمكافحة الجرائم الحدودية وضمان عدم إستخدام أراضيها كنقطة إنطلاق أو عبور للأنشطة الإجرامية.
تنص إتفاقيات تسليم المجرمين والقوانين الوطنية ذات الصلة عادة على عدد من الجرائم التي يجوز فيها التسليم، وتكون غالباً من الجرائم المصنفة بأنها من الجرائم الجسيمة أو ذات طبيعة معينة، وأن تكون معاقباً عليها في قوانين كلتا الدولتين (مبدأ التجريم المزدوج).
من ناحية أخرى، تحدد هذه الإتفاقيات والقوانين حالات تمتنع معها الدولة عن التسليم ، ومن أبرز هذه الموانع:
* الجرائم السياسية أو ذات الطابع السياسي: حيث ترفض معظم الدول تسليم الأشخاص المطلوبين لجرائم تعتبرها ذات طبيعة سياسية، وذلك لحماية الحق في اللجوء السياسي وحرية الرأي.
* خطر تعرض الشخص المطلوب للتعذيب أو لمعاملة لا إنسانية أو مهينة للكرامة الآدمية: حيث تلتزم الدول بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان بعدم تسليم أي شخص إذا كان هناك خطر حقيقي بتعرضه لمثل هذه الممارسات في الدولة طالبة التسليم.
* عدم تسليم المواطنين: تنص دساتير وقوانين العديد من الدول صراحة على “عدم جواز تسليم مواطنيها” الذين يحملون جنسيتها. في هذه الحالة، إذا رفضت الدولة تسليم أحد مواطنيها، فإنها غالباً ما تلتزم بمحاكمته أمام قضائها الوطني عن الجرائم المنسوبة إليه، إذا كانت هذه الجرائم معاقباً عليها بموجب قوانينها
* أسباب تتعلق بالعقوبة المقررة للجريمة:
قد تمتنع الدولة عن التسليم إذا كانت العقوبة المقررة للجريمة في الدولة طالبة التسليم تتعارض مع النظام العام أو المبادئ الأساسية لقوانين الدولة المطلوب منها التسليم، مثل عقوبة الإعدام في الدول التي ألغت هذا العقوبة.
* عند سبق صدور حكم نهائي في الجريمة (مبدأ عدم جواز المحاكمة عن ذات الفعل مرتين:
إذا كان الشخص المطلوب قد حوكم بالفعل وصدر بحقه حكم نهائي بات عن ذات الأفعال المطلوب تسليمه من أجلها، فلا يجوز تسليمه.
* في حالة تعلق طلب التسليم بمواطن يتبع لدولة ثالثة، فإن الأمر يخضع لتقدير الدولة التي يوجد على أراضيها الشخص المطلوب، مع مراعاة الإتفاقيات القائمة بينها وبين الدولة طالبة التسليم، وكذلك الإتفاقيات بينها وبين الدولة التي يحمل جنسيتها الشخص المطلوب تسليمه، فضلاً عن الإعتبارات الإنسانية والقانونية الأخرى المتعلقة بالشخص.
تتطلب عملية إسترداد المجرمين إعداد ملف متكامل وموثق بدقة وعادة ما يشتمل ملف الإسترداد على المستندات التالية:
* طلب رسمي بالتسليم: صادر عن السلطة المختصة في الدولة طالبة التسليم.
* أمر قبض أو حكم إدانة: صادر عن سلطة قضائية مختصة في الدولة طالبة التسليم، وموضحاً به الجريمة المنسوبة للشخص المطلوب والأدلة التي تستند إليها.
* نصوص المواد القانونية: التي تجرم الفعل وتعاقب عليه في قانون الدولة طالبة التسليم.
* بيانات دقيقة عن هوية الشخص المطلوب: بما في ذلك اسمه الكامل، وتاريخ ومكان ميلاده، وجنسيته، وأوصافه، وصوره الفوتوغرافية إن أمكن، والمعلومات المتوفرة عن مكان تواجده داخل الدولة التي يوجد على أراضيها.
* توثيق يومية التحري والمرفقات:
يجب أن تكون جميع المستندات المقدمة موثقة حسب الأصول المتبعة في الدولة طالبة التسليم، ومصدقاً عليها بالطرق المعروفة.
يتم إرسال ملف الإسترداد عبر القنوات الدبلوماسية المعتادة. وعند إستلام الدولة المطلوب منها التسليم للملف ومرفقاته ، تقوم السلطات المختصة فيها بفحص الطلب ودراسته.
تتعامل الدولة المطلوب منها التسليم مع “أمر القبض” الصادر من الدولة طالبة التسليم، وفق ما تحدده تشريعاتها الداخلية ونظامها القانوني ففي بعض الدول قد تقوم بإستصدار أمر قبض جديد من سلطاتها القضائية الوطنية وفقاً لنظامها القانوني الداخلي، بينما تقوم دولاً أخرى بتنفيذ أمر القبض الأجنبي مباشرة دون الحاجة لإصدار أمر بالقبض من سلطاتها الداخلية وقد تكتفي بعض الدول بتظهير أمر القبض المرسل من الدولة طالبة التسليم من السلطات المختصة بتلك الدولة دون الحاجة إلى إصدار أمر قبض آخر.
في الغالب لإستكمال عملية تسليم المطلوبين، يُعرض طلب الإسترداد على جهة قضائية في الدولة المطلوب منها التسليم لتبت في مدى قانونية الطلب وتوافقه مع الإتفاقيات والقوانين الوطنية ويمثل الشخص المطلوب تسليمه أمام قاضي التحقيق ويسمح له أو لمحاميه بتقديم دفوعاته عن الإتهامات المنسوبة إليه.
يجدر هنا التنويه إلى حالات تسليم تتم دون عرض الحالة على الجهات القضائية وهو ما يعرف بـ “التسليم الإداري” أو “الإبعاد المقنّع”، وهو إجراء يتم بواسطة أجهزة تنفيذية (مثل أجهزة الشرطة أو هيئات تنظيم شؤون الهجرة والأجانب) دون المرور بالإجراءات القضائية الكاملة للتسليم.
وغالباً ما يثير هذا النوع من التسليم جدلاً قانونياً وحقوقياً، حيث لا تتوفر فيه الضمانات الكافية للشخص المطلوب تسليمه.
عندما تنظر الدولة التي يوجد على أراضيها الشخص المطلوب إسترداده، فإنها تأخذ بعين الإعتبار مجموعة من العوامل، منها:
* مدى إستيفاء الطلب للشروط الشكلية والموضوعية المنصوص عليها في الإتفاقية المطبقة أو القانون الوطني.
* العلاقات الدبلوماسية والسياسية:
لا يمكن إنكار أن طبيعة العلاقات بين الدولتين تلعب دوراً في سرعة الإستجابة للطلب وقرار الموافقة أو الرفض، وإن كان يفترض أن تسود الإعتبارات القانونية.
* الإعتبارات الإنسانية: مثل الحالة الصحية للشخص المطلوب أو ظروفه الشخصية، وإن كانت هذه الاعتبارات عادة ما تكون ذات وزن ثانوي ما لم تكن جسيمة.
* المصلحة الوطنية للدولة المطلوب منها التسليم:
قد ترى الدولة أن تسليم شخص معين قد يضر بمصالحها الوطنية أو أمنها القومي.
للسودان تاريخ طويل في إبرام إتفاقيات التعاون الأمني والقضائي وتسليم المجرمين مع عدد كبير من الدول، حيث أبرم في أوقات متفاوتة إتفاقيات ثنائية مع كل من : جمهورية مصر العربية، ودولة إثيوبيا، ودولة تشاد، دولة أفريقيا الوسطى ، دولة الإمارات العربية المتحدة.
كما تربط السودان إتفاقيات مماثلة مع كل من كينيا وأوغندا قبل إنفصال دولة جنوب السودان، عندما كانت للدولتين”كينيا وأوغندا” ، حدوداً مشتركة مع السودان الموحد، وقد أثار وضع هذه الإتفاقيات بعد إنفصال الجنوب تساؤلات قانونية حول مدى سريانها بالنسبة للإقليم الأم (السودان) والإقليم المنفصل (دولة جنوب السودان) تجاه كينيا وأوغندا، وهو أمر يخضع لقواعد القانون الدولي المتعلقة بخلافة الدول في المعاهدات، والتي تميل إلى إستمرار المعاهدات الحدودية والمعاهدات ذات الطابع الإقليمي، مع إمكانية للدولة الجديدة (جنوب السودان) أن تقرر موقفها من المعاهدات الأخرى عبر إعلانات الخلافة أو إبرام إتفاقيات جديدة.
أما بالنسبة للسودان (الإقليم الأم)، فإنه يظل، كقاعدة عامة، طرفاً في المعاهدات التي أبرمها ما لم يتم إنهاؤها أو تعديلها وفقاً لأحكامها أو قواعد القانون الدولي.
بالإضافة إلى ذلك، فالسودان طرفاً في إتفاقية الرياض العربية للتعاون القضائي لسنة 1983، وهي إتفاقية إقليمية هامة تضم عدداً كبيراً من الدول العربية وتهدف إلى تعزيز التعاون القانوني والقضائي بينها في مختلف المجالات، بما في ذلك تسليم المجرمين.
يتضح من السرد أعلاه أن موضوع إسترداد المجرمين الهاربين حال وجود إتفاقية “ثنائية أو متعددة الأطراف” يبدو سهلاً وميسوراً وواضحاً أما في حالة عدم وجود إتفاقية تسليم ثنائية أو متعددة الأطراف تضم الدولة الطالبة للتسليم مع الدولة المطلوب منها التسليم، فإن الأمر يبدو معقداً بعض الشيء حيث يتم التعاون إستناداً إلى المبادئ الدبلوماسية العامة والعلاقات الدولية مثل مبدأ المُجاملة الدولية وومبدأ المعاملة بالمثل وترجيح المصالح المشتركة حيث يكون الدافع الرئيسي للتسليم هو الرغبة في بناء علاقات ودية والحفاظ على علاقات قائمة في مجالات أخرى لضمان تعاون مُثمر مستقبلاً، هذا إضافة إلى المصلحة المُشتركة في مكافحة الجريمة.
شهد السودان سابقة هامة في هذا المجال تمثلت في تسليم “إلييتش راميريز سانشيز” المعروف بـ “كارلوس” إلى السلطات الفرنسية في عام 1994، وهو ما عكس في حينه إستعداد السودان للتعاون في قضايا مكافحة الإرهاب الدولي ذات الإهتمام العالمي، وقد تم التسليم في ظل تعقيدات قانونية وسياسية وإتهامات برعاية الإرهاب من نظام الإنقاذ الحاكم وقتها وإيواء الإرهابيين المطلوبين.
عموماً فإن قوة أو ضعف العلاقات الدبلوماسية والسياسية والإقتصادية بين الدول تؤثر بشكل كبير على مدى إستجابتها لطلبات الإسترداد، سواء كانت هذه الطلبات مُستندة إلى إتفاقيات قائمة أو إلى غيرها من المبادئ الدولية.
ختاماً نشير إلى أن ملاحقة مجرمي مليشيا الدعم السريع دولياً تتطلب تضافر جهود دبلوماسية وقانونية مُكثفة، والإستفادة من كافة الآليات المتاحة سواء كانت إتفاقيات قائمة أو مبادئ التعاون الدولي، ويبقى الأمل معقوداً على إرادة المجتمع الدولي في تحقيق العدالة وإنهاء ظاهرة الإفلات من العقاب، صوناً للسلم والأمن الدوليين.