حديث السبت يوسف عبد المنان يكتب : *سقطت الدبيبات، ويسألونك عن الصياد*
حديث السبت
يوسف عبد المنان يكتب :
*سقطت الدبيبات، ويسألونك عن الصياد*
> من لم يدعم الجيش والمشتركة في يوم حُنين، فليُشجّع برشلونة.
سقطت الأقنعة، وفرح أتباع الجنجويد باغتصاب بنات السودان.
كان يوم الخميس التاسع والعشرين من مايو يوماً عبوساً، وكابوساً خيّم على أهل كردفان، جُرحاً اندمل ثم عاد فانفتق، وتدفّق الدم وبلّل الثياب.
غرقت مدينة الدبيبات في بحر الموت، ودخان المعارك يغطي سماء المدينة، ورائحة البارود تفسد دعاش الرشاش. ومنذ الساعات الأولى من الفجر، كما كان يفعل الأستاذ أحمد البلال الطيب حين يخرج بعناوين صحفه الدار وأخبار اليوم، وهو الصحفي الأول في البلاد لسنوات طوال في زمن السبق الصحفي، قبل حلول عهد وسائل التواصل الاجتماعي التي اختلطت فيها الحقائق بالشائعات والأخبار الكاذبة، هاجمت مليشيا آل دقلو بعدد خمسمائة عربة، حسب تقديرات من خاضوا تلك المعركة. وهو رقم كبير جداً.
وبذات الطريقة التي دخلت بها المليشيا النهود، اخترقت القوة — التي تم تجميعها من الفولة والمجلد والضعين ونيالا — المدينة، وجاءت لأول مرة بمرتزقة من دولة نيجيريا وكولومبيين للطائرات المسيّرة.
قاتل فرسان الصياد بقيادة الفارس حسن البلاع والطاهر عرجة، قائد القوات المشتركة، ببسالة، وصمدوا في وجه قوة غاشمة تهاجم عبر موجات متتالية. واستطاعت قوات الصياد صدّ الهجوم الأول، وخسرت المليشيا أكثر من مائة وتسعين قتيلاً، ومثلهم من الجرحى — وهي بالطبع أرقام تقريبية، لأن الحرب ليس بها جهاز إحصاء ولا وجود لطرف ثالث يوثق ما يُقال. ولكنها الحرب في عنفوان أوارها.
قبل “الخميس الأسود” علينا — والأبيض عليهم — كانت قيادة الصياد الميدانية قد منعت المواطنين من دخول الدبيبات والعودة لبيوتهم التي هجروها، هياماً في القرى والوديان. ومن بركات السماء على أهل الأرض أن أمطار الرصاص لم تهطل بعد. ولو سُمح لأهالي الدبيبات بالعودة، لوقعت الكارثة.
كانت إرهاصات الهجوم على الدبيبات شاخصة أمام عيون الصياد. المليشيا تجمع كل قوتها من نيالا والضعين والفولة والمجلد والنوير من بانتيو، ومرتزقة نيجيريا والنيجر والليبيين، وحشدت الإدارة الأهلية من أمراء الموت وعمد الخراب القُصّر اليافعين لمعركة على ذات طريقة الهجوم على النهود.
الصياد الذي طالت مسيرته من كوستي حتى الغبشة، وأم روابة، والرهد، وجبل الداير، وكازقيل، وأم عردة، والابنويه، والحمادي؛ في كل هذه المحطات والمسافات المتباعدة، ظل في كل منطقة تتناقص فيها عدته وعتاده، ولم تفتر همته، أو تخور قوته.
خاض معركة امتدت لعشر ساعات، استبسل فيها الفرسان أيما استبسال، ولكن في منتصف النهار، سقطت الدبيبات مرة أخرى في يد الجنجويد، ولم تسقط عزيمة الرجال، ولا ثبات الأبطال.
سقط الفارس موسى مصطفى موسى داؤود شهيداً دفاعاً عن أرضه، ودينه، وشرف الكنانيات، بينما كان عمّه العمدة سعد عبدالله داؤود يركع تحت أقدام آل دقلو في نيالا، وهو “يباري” ناظر الجنجويد الهادي أسوسه، الذي سارع بعد سقوط الدبيبات بنشر بيان باسم قبيلة الحوازمة، يهنئ فيه “الأشاوس” من قوات الدعم السريع التي “حررت” الدبيبات والحمادي من “فلول” جيش البرهان، أو كما قال زميل الفريق شمس الدين كباشي في “الدلنج المتوسطة”، وصديقه السابق، الذي كان كباشي يمد له اليد البيضاء، بينما الهادي أسوسه يخفي سكين الغدر.
سقطت الدبيبات في يد المليشيا، ولكن الإرادة التي حرّرت الخرطوم من الجنجويد وأذاقتهم الويل والثبور، ودفنت أحلامهم في صالحة، قادرة على استعادة الدبيبات في أيام معدودة.
ولن يهنأ الجنجويد من اليوم الجمعة براحة، في أرض ليست لهم، وشعب يمقتهم، وعاش معهم مكرهاً ومرغماً لعامين من الذل والهوان. ولن يطول سقوط الدبيبات، حتى لو جمعت المليشيا كل بغاث الأرض.
(2)
نظل داعمين لقوات الصياد وقواتنا المسلحة في كل أرجاء تراب الوطن؛ بأقلامنا، وأرواحنا، وحناجرنا، وقرآن فجرنا، وصلاة عشائنا.
موقفنا منها مبدئي، لا يقبل المساومة، ولا السير على حافة الطريق. نحن مع جيشنا حينما يخسر موقعة وينسحب بتقديرات عسكرية أو ظروف ميدان قاهرة.
هي الحرب… فرح وحزن، ودموع ودماء، وصبر في ساعة اللقاء.
ومن يعتقد أن الحرب انتصارات متتالية، فليبحث له عن فريق كرة قدم مثل برشلونة أو باريس سان جيرمان لتشجيعه، ويترك السياسة ومتابعة الحرب التي تصيبك بالهم والغم، ولا ملجأ لنا إلا بـ”حسبنا الله ونِعم الوكيل”.
إذا كانت قوى الجنجويد قد سكبت الدموع حُزناً على هزيمتها في أم درمان والخرطوم، فإنها تفرح اليوم بسقوط الدبيبات التي تبعد عن القصر الجمهوري، الذي خرجوا منه مرغمين، بنحو ستمائة كيلومتر.
انتشت المليشيا بما حدث في الدبيبات، واستهدفت مسيّرات دولة الإمارات صباح أمس الجمعة مستشفى الضمان الاجتماعي، الذي يُقدّم خدماته الطبية لكل غرب السودان، لتعطيله وتهجير الأطباء. كما استُهدفت عنابر المرضى بمستشفى الأبيض من أجل “الديمقراطية” ومحاربة “الفلول”، لأن مستشفى الضمان من إنجازات أحمد هارون، التي لن تمحوها ضربات المسيّرات ولا المدفعية التي انطلقت أمس من بارا.
تلك الإنجازات في قلوب أهل كردفان، وفي الأبيض، المسكونة بالجنجويد، وعناصر الدعامة التي تجوس الأسواق وترسل المعلومات للجنجويد، ولا تمتدّ لهم يد السلطة ولا القانون.
يفرحون بسقوط الدبيبات، ويقيمون مهرجانات الشعر والمدح لقوات القتلة ومغتصبي النساء.
ولكن من رماد الدبيبات، سيشعل الصياد والمشتركة ناراً تحرق الجنجويد من أبوزيد والنهود حتى فوربرنقا وسرف عمرة.
متحركات القوات المسلحة التي تتأهب الآن للانقضاض على ما تبقى من المليشيا، لن تثنيها عن مهمتها، لا حشود جماعة، ولا مرتزقة جلبتهم الأموال من بلاد الهوسا أو عرب الشتات والصحارى.
(3)
انشغل الناس بسجود رئيس الوزراء الجديد كامل إدريس شكراً لله بأرض مطار بورتسودان.
وحاول خصوم الرجل إضفاء بُعد سياسي على سجدة كانت لله وحده، لا شريك له.
ولم يقرأ هؤلاء ما في جُعبة رئيس الوزراء من رؤى وأفكار ربما تُنقذ البلاد مما هي فيه من فشل وخيبة.
وانشغلوا بسجدة كامل إدريس وكأنهم لم يشاهدوا كيف يسجد المصري محمد صلاح أسبوعياً حينما يُحرز الأهداف في ملاعب الإنجليز — سواء في ملعب الاتحاد، أو ويمبلي، أو الأولترافورد، أو الكامب نو، أو الملعب الأولمبي في ميونخ.
وصلاح لا ينتمي لتيار الإخوان في مصر، لكنه ينتمي لأمة مسلمة، مثل كامل إدريس، الذي ينتظر منه أولاً تقديم مشروع للخلاص الوطني من الفشل والحرب، ومشروع سياسي لاستعادة نظام ديمقراطي لا يُعزل فيه إلا من عزلته الجماهير عبر صناديق الاقتراع.
أمام رئيس الوزراء الآن تشكيل حكومة من التكنوقراط المستقلين — على الأقل ظاهرياً.
وقديماً، كان اليساريون العقائديون كثيراً ما يشيرون إلى أولئك التكنوقراط بأنهم “برجوازية صغيرة”، وهو وصف لانتماء طبقي لا حُكم قيمي على صاحبه. ولو كانت البرجوازية وصمة، لكان أولى بها كارل ماركس نفسه، وهو الأب الشرعي للنظرية ذاتها.
كامل إدريس رجلٌ مؤهل من حيث التعليم الراسخ، ولكن لا نجزم إن كان مثقفاً، لأن المثقف — حسب زعم منصور خالد — ليس بالضرورة المتعلم أو خريج أكبر المعاهد، إنما هو الملم بالأفكار والمعارف الإنسانية، والملتزم بالقيم والمعايير التي أرسلتها هذه المعارف، والقادر على استخدامها في تطوير مجتمعه، أيّاً كانت أيديولوجيته.
وإذا كان كامل إدريس عالماً مثل الترابي، وخير الدين التونسي، وراشد الغنوشي، وعبدالوهاب المسيري (المصري لا الجنجويدي)، فإن لعالم الاجتماع أبوزيد عبدالرحمن، الشهير بـ”ابن خلدون الحضرمي”، رأياً في مسألة تولّي العلماء شؤون العامة.
يقول إن العلماء والمفكرين يحاولون تحميل الرعية فوق طاقتهم بما لديهم من علم ومعارف.
ولم نقرأ في مكتبات السودان التي أجهز عليها ديمقراطيو آل دقلو كتاباً لكامل إدريس — ربما قصورٌ منّي، وربما يكتب بغير العربية، أو لا يكتب أصلاً.
وليت مهمته في السلطة تركزت على توفير رغيف الخبز، ودقيق الفَتْريته، وجرعة الأنسولين، والبنسلين، والتمريض، وهموم جماهير الشعب.
ولم تتعلم هذه الجماهير بعد التعويل على المؤسسات — ربما تربية خلاوي ومؤسسات عسكرية.
فالشيخ في الخلوة يُطاع، وضابط الجيش يُؤتمر بأقواله.
ومنذ الاستقلال، كان هتافنا للأزهري: “حررت الناس يا إسماعيل، الكانوا عبيد يا إسماعيل”،
ثم هتفنا لجعفر نميري: “أبوكم مين؟ نميري، قائدكم مين؟ نميري!”
وفي الديمقراطية، وهي سنوات يُفترض فيها الوعي، لا الغيبوبة، كان الهتاف للصادق المهدي، لا للجمعية التأسيسية المنتخبة: “عاش الصادق، أمل الأمة!”
وبئس أمة تُعلّق آمالها في عنق رجل فرد، فهي أمة تَهوي إلى درك سحيق من الضلال الاجتماعي، والتيه السياسي، لا الضلال الإيماني.
كامل إدريس ينبغي أن يدرك أن عهد “الرجال السوبر” قد دُفن في تراب الأرض إلى الأبد، وجاء عهد المؤسسات، ودولة القانون، والديمقراطية.
وفي مناخ الحرب، يصعب — أو يستحيل — أن تكون هناك أجهزة رقابة فاعلة، ولكن من الضرورة وجود مجلس وزراء له سلطة حقيقية، على الأقل في إدارة الشأن التنفيذي.
لكن ما نشهده الآن لا يعدو أن يكون “دولة مراكز القوى” التي تقتسم الغنائم، أكثر مما تُوطّن “فقه العزائم”.
قيل إن كامل إدريس تنازل عن راتبه، ولكننا نخشَى أن تكون هناك دولة تدفع له مخصصاته، كما كان يفعل البريطانيون مع حمدوك، حتى صار السفير عرفان صديق هو الحاكم البريطاني المنتدب للسودان، بدلاً من رئيس وزراء يمثل الثورة.
وأول قرار ننتظره من مجلس الوزراء: أن يُرغم رئيسه الجديد على قبول راتبه، حتى لا تتسلل إلى مفاصل السلطة “سويسرا أو ألمانيا” من جديد، ويذهب حمدوك، ويأتي حمدوك آخر!
(4)
في مثل هذه الأيام، والحرب في أشدّها ببلادنا، والموت يحصد أرواح شبابنا، وقواتنا تخوض معركة مصيرية، تأتيني دعوة للمشاركة في مهرجان كبير بالمغرب العربي.
طُلب مني ورقة عن نزاع السودان وأثره على الثقافة والآداب والفنون.
نازعتني نفسي بالاعتذار، لكن غلبتني رغبة في تنوير مئات الأدباء والمثقفين عما يجري في بلدي، من موقفي البعيد عن السلطة وشأنها.
تذكرت أبياتاً تُنسب حيناً للإمام الشافعي، ومرات إلى الإمام علي بن أبي طالب، وعند أخي إمام محمد إمام الخبر اليقين:
> تغرّب عن الأوطان في طلب العُلا
فسافر ففي الأسفار خمس فوائد
تفريج هم، واكتساب مودة
وعلم، وآداب، وصحبة ماجد
فإن قيل في الأسفار همٌ وكربة
وتشتيت شمل، وارتكاب شدائد
فموت الفتى خيرٌ له من حياته
بدار هوانٍ بين واشٍ وحاسد
*يوسف عبد المنان*
#الكرامة
31 مايو2025م