*اقتصاد*
*السودان في صدارة موردي الأغنام للسعودية
( قراءة تحليلية في دلالات الأرقام وانعكاساتها الاقتصادية*
بقلم: د. أحمد حسن الفادني
اليوم اطلعت على تقرير منشور في احدي مجموعات الواتساب المتخصصة بالاقتصاد و الذي آثار فيني شجون الماضي و التفكير في المستقبل ، حيث كشفت بيانات رسمية حديثة صادرة عن الهيئة العامة للإحصاء السعودية عن واقع اقتصادي جديد و لافت يعكس تحولات في خريطة تجارة المواشي الحية في المنطقة، فقد تصدر السودان قائمة الدول الموردة للأغنام إلى السوق السعودي خلال الفترة من 2019 حتى 2024، بإجمالي واردات بلغت 9.5 مليار ريال سعودي، بما يعادل 54% من إجمالي الواردات في هذا القطاع الحيوي برغم الظروف الحالية و التي تمر بها البلاد و التي لا تخفى على احد !!! .
فهذا الرقم لا يقف عند كونه مجرد إحصائية، بل يمثل مؤشر يسير الى قدرة السودان على تجاوز الأزمات و في احلك الظروف يمكن و يستطيع أن يقف شامخا متحاوزا كل العقبات ،و أيضا على عمق الترابط الاقتصادي بين السودان والمملكة في قطاع الثروة الحيوانية الحية و المذبوحة ،ويعتبر من صميم الأمن الغذائي والاجتماعي، خاصة في ظل الطلب المتزايد على اللحوم الحية خلال مواسم الحج والعمرة وسائر المناسبات الدينية والاجتماعية في السعودية.
ان يأتي السودان في الترتيب و الذي أظهرته البيانات يعزز مكانة السودان الاقتصادية في المنطقة، إذ جاءت الصومال في المرتبة الثانية بإجمالي واردات بلغت 2.7 مليار ريال، تليها الأردن بـ2.1 مليار، ثم رومانيا بـ1.5 مليار، وجيبوتي بـ671 مليون ريال فقط.
إذ نجد هذا التوزيع الجغرافي يبرز اعتماد المملكة على القارة الأفريقية، تحديدا السودان والصومال، كمصادر رئيسية لتوريد الأغنام، ويعود ذلك إلى اعتبارات اقتصادية ولوجستية في آن واحد، من خلال القرب الجغرافي و التي تخفيض من تكاليف النقل،و وفرة المعروض وجودة السلالات، إضافة إلى مرونة الأسواق السودانية في التصدير، جميعها عوامل جعلت السودان يتفوق ليس فقط على الدول الأفريقية بل حتى على دول أوروبية كبرى مثل رومانيا.
من زاوية تحليلية أعمق، يمكن النظر لهذا الرقم على أنه يمثل جانبا إيجابيا في ميزان العلاقات التجارية بين السعودية والسودان، إذ يساهم في تعزيز الصادرات السودانية وتحسين عائدات النقد الأجنبي في ظل ظروف اقتصادية صعبة تمر بها البلاد بعد سنوات من الأزمات المتتالية،ولكن في المقابل، يقودنا هذا الاعتماد الى تحديات هيكلية في شكل تساؤلات منطقية :
أولها: هل لدى السودان استراتيجية واضحة ومستدامة للحفاظ على هذا الموقع في السوق السعودي، خاصة مع ظهور منافسين إقليميين ودوليين؟
ثانيها: ما مدى تأثير هذا الحجم من الصادرات على سوق المواشي المحلية في السودان من حيث الأسعار والتوازن بين الاستهلاك المحلي والتصدير؟
ثالثها: إلى أي مدى يمكن أن تستخدم هذه العلاقة التجارية كورقة ضغط سياسي أو اقتصادي في ظل الظروف المتغيرة بالمنطقة؟
وفي هذا الإطار، من المهم ملاحظة أن إجمالي قيمة الواردات السعودية من الأغنام خلال خمس سنوات بلغ نحو 17.5 مليار ريال سعودي، حصة السودان منها تتجاوز النصف. هذا الرقم يجب أن يدفع صناع القرار في السودان وبالذات السيد وزير الثروة الحيوانية و السمكية البروفسير احمد التجاني الخبير و المعين حديثا لإعادة النظر في سياسات تنمية وتطوير قطاع الثروة الحيوانية، ليس فقط كمصدر للعملة الصعبة، بل كقطاع إنتاجي متكامل يتطلب استثمارات في النقل والتخزين والمسالخ ومزارع التربية و التسمين وتحسين السلالات حديثة، إلى جانب تبني معايير جودة أكثر صرامة لضمان الاستمرار في السوق السعودي وغيره.
في المجمل، يعكس هذا الترتيب الإحصائي واقعا اقتصاديا يشبه ما يمكن وصفه بـ”الشراكة غير المعلنة” بين السودان والسعودية في قطاع المواشي. لكنه في ذات الوقت يعد تذكيرا حاسما بأن الأسواق الخارجية متغيرة بطبيعتها، وأن الحفاظ على مركز الصدارة يتطلب أكثر من مجرد وفرة موارد بل يحتاج إلى رؤية اقتصادية واضحة، وإرادة سياسية حازمة، ومؤسسات قادرة على إدارة الملف باحترافية وتنسيق عالي بعيدا عن العشوائية والارتجال ،هذا هو التحدي الحقيقي الذي ينتظر السودان إذا أراد تحويل هذه الأرقام من إنجاز مؤقت إلى رافعة دائمة للاقتصاد الوطني.
(نريد أن نرى أكثر مما نسمع)