كوداويات محمد بلال كوداوي يكتب : *عندما تُرافق الأم امتحان ابنتها*
كوداويات
محمد بلال كوداوي يكتب :
*عندما تُرافق الأم امتحان ابنتها*
اليوم بدأت امتحانات الشهادة السودانية داخل السودان وفي بلاد الشتات…
توحّد الزمن وتوحدت الآمال وتوزّعت القلوب بين لجان الامتحان وأبوابها.
أوصلتُ ابنتي ظهراً أنا ووالدتها إلى مركزها المخصص “جمال عبد الناصر” في حي الدقي.
دعونا لها سلمناها للباب مطمئنين وعدنا أدراجنا إلى البيت، متكئين على ثقةٍ أن ما غرسته السنين لن يخيب في هذه اللحظات.
لكن شيئاً غريباً شدّني شيئاً تجاوز المألوف.
أرصفة الشارع المقابل للمدرسة اكتظّت بالنساء سودانيات من كل الأعمار أمهات وخالات وأخوات وجارات.
يفترشن الأرض يراقبن الباب يتهامسن يتنهدن ينتظرن.
ليس لبضع دقائق بل لساعات أربع وربما أكثر!
عدنا بعد مضي زمن الامتحان فوجدت المشهد كما هو… لم يتغير شيء. نفس العيون المعلقة بالأبواب نفس القلوب المربوطة بمقاعد اللجان.
سألت نفسي: ما الذي يدفع هؤلاء النسوة إلى هذا الإصرار؟
ما سر هذا الحضور المكثف الذي لم نشهده حتى في الخرطوم دعك من القاهرة؟!
*ثم فهمت… أو هكذا خُيّل لي أني فهمت.*
ليس هذا مجرد امتحان أكاديمي بل هو امتحان حياة.
في زمن الحرب والتشرد في غربة لا ترحم صار مقعد الامتحان أشبه بطوق نجاة.
صار نجاح البنت لا يعني فقط شهادة بل يعني بيتاً سيُبنى ومستقبلاً قد يُنقذ وحياةً لا تزال ممكنة.
وهؤلاء الأمهات اللاتي يفترشن الأرصفة لا يفعلن ذلك ضعفًا ولا مبالغة…
بل يفعلنه لأن قلوبهن لم تعد تحتمل المزيد من الغياب.
يردن أن يكنَّ قرب بناتهن حتى لو من وراء سور، لأن السور أصبح حاجزًا بين حلم وألم وبين بلدٍ تُرك خلفهن وبنتٍ تُراهن عليهن.
*إنها ثقافة الحضور…*
حضور الأم ليس فقط في لحظة الولادة بل في لحظة الإمتحان وفي لحظة النهوض وفي لحظة النجاة.
وهي ثقافة سودانية أصيلة تمتزج فيها الحنان بالمسؤولية وتتماهى فيها التقاليد مع القلق.
لكننا ونحن نرقب هذا المشهد ينبغي أيضًا أن نتساءل:
هل نُحمّل أبناءنا فوق طاقتهم؟
هل نربط مستقبلهم بأعصابنا ونعلّق على رقابهم أحلامنا المكسورة؟
هل نحاصرهم بحبٍّ قد يخنق أجنحتهم بدل أن يمنحهم السماء؟!
الزحمة أمام أبواب المدارس ليست فقط زحمة بشر…
بل زحمة أحلام زحمة دعوات زحمة دموع لم تجد طريقها للبكاء.
فيا رب…
وفّق بناتنا وأبناءنا.
وطمئن قلوب الأمهات اللواتي ينتظرن ساعات في الشمس والغربة.
لأن لا شيء عندهن أغلى من نجاح أولادهن وبناتهن .