أحمد سعد أحمد يكتب : *رصاصة في الوعي من قتل السادات إلى قتل الوعي العربي*
أحمد سعد أحمد يكتب :
*رصاصة في الوعي من قتل السادات إلى قتل الوعي العربي*
في ظل تصاعد نيران المجازر الصهيونية في غزة وتهاوي أقنعة ما يسمى بـ”السلام الإبراهيمي فوجئ المتابع العربي بنشر فيديو نادر يوثق لحظة اغتيال الرئيس المصري الأسبق أنور السادات أثناء عرض عسكري عام 1981. لم يكن نشر هذا الفيديو في هذا التوقيت أمرًا عفويًا أو بريئًا بل جاء في لحظة إقليمية حساسة تشهد فيها المنطقة حالة من الفوران الشعبي ضد الاحتلال الإسرائيلي، وتراجع شرعية الأنظمة المطبعة مما يجعل من هذا المشهد القديم أداة توظيف جديدة في معركة الوعي.
التوقيت يحمل دلالة بالغة فالنشر لم يكن توثيقيًا بل وظيفيًا. إذ يتزامن مع انفجار الغضب الشعبي العربي من فظائع الاحتلال وانكشاف هشاشة المواقف الرسمية ومحاولات غسل صورة الكيان الإسرائيلي عبر أدواته. هنا تُستخدم الصورة كأداة “تفكيك رمزي”، لإعادة تشكيل الوعي، وتوجيه رسائل خفية إلى الزعامات السياسية والشعوب في آنٍ معًا. الفيديو يُقدّم السادات في قالب “رجل الدولة الشهيد”، ويزرع في لاوعي الجمهور رسالة ضمنية بأن مَن يغامر بالسلام يُغتال، ومَن يحارب يُجرّ إلى الفوضى.
دور الإمارات في هذا السياق لم يعد محصورًا في التمويل أو الدعم السياسي، بل تطوّر إلى ما يمكن وصفه بـ”الدور الاستخباراتي الثقافي”. فإعادة نشر الفيديو عبر منصات مقربة من أبوظبي، وفي ظل حملة إعلامية تتبنى سردية الاعتدال تكشف عن وظيفة تتجاوز الإعلام إلى التأطير النفسي والسياسي للوعي العربي. الإمارات تُعيد إنتاج السادات كرمز للسلام الذي تم اغتياله، في الوقت الذي تُصوّر فيه المقاومة على أنها السبب في الدماء والفوضى في تقاطع مكشوف مع الاستراتيجية الصهيونية في شيطنة النضال الفلسطيني.
أما الموساد فقد دأب تاريخيًا على استخدام “الاغتيال الرمزي” كجزء من عقيدته العملياتية. ليس فقط لتصفية الخصوم جسديًا بل أيضًا لقتل الرموز في وعي الجماهير. إعادة بث لحظة اغتيال السادات ليست تمجيدًا له بل تندرج ضمن ما يُعرف في الفكر الاستراتيجي بـ”الاغتيال العكسي”، أي تحويل الضحية إلى رمز إيجابي يخدم أهداف الاحتلال وتشويه أي فعل مقاوم بإظهاره كتطرف أو إرهاب. بهذا المنطق، لا يعود الفيديو توثيقًا لماضٍ مؤلم، بل سلاحًا يستخدم لاغتيال الوعي العربي المعاصر.
الولايات المتحدة وحلفاؤها في الغرب يديرون معركتهم مع العالم العربي ليس فقط بالسلاح بل عبر ما يمكن تسميته “استراتيجيات التفكيك الثلاثي”: تفكيك الدولة، وتفكيك الوعي، وتفكيك الدين. فالدولة تُحوّل إلى جهاز أمني يحرس مصالح الخارج، والوعي يُفرغ من معاني التحرير والكرامة، والدين يُعاد تفسيره ليخدم الخضوع والطاعة . هذه الاستراتيجيات تجد في الإمارات أداة مثالية للتنفيذ عبر شبكات إعلامية وفكرية واقتصادية تسوّق لمنظومة تفرغ القضية الفلسطينية من مضمونها العقائدي.
المرحلة القادمة قد تشهد تصعيدًا في استخدام الرسائل النفسية المؤجلة مثل الفيديوهات الأرشيفية والمذكرات والتسريبات التي تُوظف لتوجيه رسائل خفية. هذا هو الإرهاب الرمزي الناعم الذي لا يُطلق رصاصة حقيقية بل يبث الخوف والإحباط في عقول الشعوب وزعاماتها. يُراد للمقاومة أن تُربط بالدمار، وللاستسلام أن يُغلف بثوب العقلانية والواقعية في تكرار خبيث لسيناريوهات سايكس بيكو ولكن بأدوات إعلامية وذهنية متطورة.
لكن الواقع يكشف أن الشعوب لم تعد ذلك الكيان الساذج الذي يُخدع بسهولة. المجازر في غزةوصمود المقاومين وانكشاف تطبيع العواصم كلها عوامل تعيد تشكيل وعي جديد تتفكك فيه الرواية الصهيونية وتنهار فيه أساطير الاعتدال. الشعوب باتت ترى في المقاومة شرفًا وفي التطبيع خيانة وفي استدعاء السادات محاولة يائسة لإحياء سردية ماتت مع سقوط جثته على منصة العرض العسكري.
وبعد أربعين عامًا من اغتيال السادات تعود صورته إلى المشهد العربي ليس كذكرى بل كأداة توظيف استخباري جديد. لكنها رصاصة وقعت في الزمن الخطأ. فالشعوب تغيرت والوعي تطور والعدو بات مكشوفًا. وإن حاولوا اغتيال الذاكرة فإن الحقيقة تقاوم… وتنتصر.
قال تعالى:
“وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِيٓ إِسْرَٰٓءِيلَ فِي ٱلْكِتَٰبِ لَتُفْسِدُنَّ فِي ٱلْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا . فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولَىٰهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًۭا لَّنَآ أُوْلِى بَأْسٍۢ شَدِيدٍۢ فَجَاسُواْ خِلَـٰلَ ٱلدِّيَارِ ۚ وَكَانَ وَعْدًۭا مَّفْعُولًا . ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ ٱلْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَـٰكُم بِأَمْوَٰلٍۢ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَـٰكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا . إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ ۖ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ۚ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ ٱلْءَاخِرَةِ لِيَسُـۤـُٔواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ ٱلْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍۢ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا . عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ ۚ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا ۘ وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَـٰفِرِينَ حَصِيرًا”
(الإسراء: 4–8)