*ألسنة وأقلام* *انشقاقات الإسلاميين – دروس وعبر* د. بابكر إسماعيل
*ألسنة وأقلام*
*انشقاقات الإسلاميين – دروس وعبر*
د. بابكر إسماعيل
٢٥/ ٦/ ٢٠٢٥
الإسلاميون فصيل سياسي هام من نخبة السودان وهم يمارسون السياسة الحزبية على هدى الإسلام بغرض الوصول للسلطة واستخدام السلطة في تزكية المجتمع وتعبيده لله ..
يعتبر الإسلاميون السودانيون امتداداً لحركة الإخوان المسلمين في مصر .. والتي تأسست بعد صحوة إسلامية تنويرية في أواخر القرن التاسع عشر قادها جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده ورشيد رضا .. وسبقتها صحوة إسلامية سلفية في أواخر القرن الثامن عشر في نجد قادها الشيخ محمد عبد الوهاب الذي تحالف مع أسرة آل سعود الذين أسّسوا الدولة السعودية الأولى وكذلك قامت حركات جهادية في القرن التاسع عشر في شمال إفريقيا كان من أبطالها عمر المختار والسنوسي .. وفي السودان نفسه قامت في أواخر القرن التاسع عشر حركة إسلامية صوفية جهادية خلطت الدين بالخرافة والتهويمات التراثية ولكنها لم تصمد كثيراً وانهارت عسكرياً تحت الغزو الخديوي من شمال الوادي المدعوم بريطانياً.
أثّرت هذه التيارات الإسلامية في إسلاميي السودان بدرجات متفاوتة كما أنّ الحركة الإسلامية في السودان رزئت بحزب شيوعي قوي نازعها الاستحواذ على الرأي العام وريادة النخبة السودانية إضافة لقابلية القوات المسلحة السودانية للأدلجة الحزبية وولعها الشديد بالسيطرة على السلطة والثروة في السودان.
حدث أول انشقاق للإسلاميين السودانيين في منتصف سبعينات القرن الماضي بعد مصالحة نظام نميري مع الجبهة الوطنية المتحدة التي قادها حزبا الأمة والاتحادي إضافة للإخوان المسلمين (اسم الإسلاميين السودانيين آنذاك). قاد ذلك الانشقاق الأستاذ صادق عبد الله عبد الماجد والدكتور الحبر يوسف نور الدائم – وأسّس الاثنان تنظيماً للإخوان المسلمين منفصلاً عن التيار العام للإسلاميين السودانيين الذي كان يقوده الدكتور حسن الترابي .. ويحلو للاسلاميين تسمية أنفسهم بالحركة الإسلامية السودانية (أو الاتجاه الإسلامي في قطاع الطلّاب).
كانت حجة الإنشقاقيين أن مصالحة الإخوان لنظام نميري العلماني ستعطيه شرعية إسلامية وتقوّيه .. وثبت بطلان كل هذه الدعاوى إذ أنّ نظام نميري نفسه تبني النهج الإسلامي بعد خمس سنوات من المصالحة مع الجبهة الوطنية المتحدة وأعلن تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في سبتمبر ١٩٨٣ .. قبل عامين من سقوطه المدوي .. بعد طرده الترابي وجماعته من الشراكة ..
استمر انشقاق الإسلاميين الاول بعد سقوط نظام جعفر نميري بسبب المرارات التي صاحبت الإنشقاق والاغتيال المعنوي القاسي المتبادل ..
كوّن المرحوم الترابي بعد سقوط نظام جعفر نميري الجبهة الإسلامية القومية التي حصدت ٢٠٪ من أصوات الناخبين ومثّلت معارضة قوية ضد الائتلاف الحاكم (حزب الأمة والاتحادي الديمقراطي – ١٩٨٦ – ١٩٨٩) ثم شاركتهما لاحقاً السلطة في حكومة الوفاق الوطني التي لم تصمد كثيراً بعد انسحاب الحزب الاتحادي الديمقراطي من الائتلاف الحاكم ثم سقوط الائتلاف الثنائي بين حزب الأمة والإسلاميين سريعاً وتكوين حكومة الوحدة الوطنية والتي أبعدت منها جبهة الترابي الإسلامية بناءاً على توصية من قيادة الجيش فيما أشبه الوصاية العسكرية على الحكم المدني .. ولم تستمر حكومة الوحدة الوطنية لأكثر من ثلاثة أشهر حتى عزفت المارشات العسكرية لحن انقلاب ٣٠ يونيو ١٩٨٩ الذي دبرته جماعة الترابي انتقاماً لطردهم من الائتلاف الحاكم.
استمرت مجموعة الإخوان المسلمين المنشقة بقيادة صادق عبد الله عبد الماجد ودكتور الحبر نور الدائم كفصيل مناويء لحكومة الإنقاذ (انقلاب الترابي) إلى حين حدوث مفاصلة ديسمبر ١٩٩٩ بين عمر البشير ودكتور الترابي .. فانضم فصيل الإخوان المسلمون لتأييد حكومة الإنقاذ وكذا فعلت الجماعة السلفية ..
كان ظاهر مفاصلة ديسمبر ١٩٩٩ أنه خلاف سياسي بين المدنيين والعساكر ولكن باطنها صراع محض على السلطة والمناصب بين قيادات الإسلاميين(تفجّر الخلاف عقب تعيين الأستاذ على عثمان – نائب الترابي – نائباً أول للرئيس بعد وفاة اللواء الزبير محمد صالح المفاجئة في حادثة طيران في العام ١٩٩٨).
انقسم الإسلاميون إلى معسكري القصر والمنشية .. فئة قليلة انحازت للدكتور الترابي وآثر الآخرون البقاء في السلطة تحت كنف نائب زعيم الإسلاميين والنائب الأول لرئيس الجمهورية والذي أعاد تأسيس جماعة للإسلاميين باسم الحركة الإسلامية.. وهو عين التنظيم الذي جمّده الدكتور الترابي ولم يجتمع مؤتمره العام منذ ٣٠ يونيو ١٩٨٩ وحتى المفاصلة في ٤/ ١٢/ ١٩٩٩.
انشقاق الترابي عن حزب المؤتمر الوطني الحاكم وتأسيسه لحزب المؤتمر الوطني الشعبي (عرف لاحقاً باسم المؤتمر الشعبي)؛ مكّن حكومة عمر البشير من تطبيع علاقاتها مع مصر ودول الخليج العربي وتوقيع اتفاقية السلام مع الحركة الشعبية والوصول لتفاهمات مع أمريكا والاتحاد الأوروبي .. وكما قيل ربّ ضارة نافعة .. وكان يمكن للسودان أن يشهد استقراراً وتنمية ونهضة كبيرة لولا تمرّد حركات دارفور المسلحة علي حكومة المؤتمر الوطني – ويُتهم دكتور الترابي على نطاق واسع بأنه يقف خلف تأسيس حركة العدل والمساواة – وتحديداً عبر نائبه الدكتور على الحاج الذي يراه البعض الأب الروحي لفصيل العدل والمساواة الدارفوري المتمرد.
تصالح عمر البشير والترابي عقب بروز احتجاجات شبابية ضد حكومة الإنقاذ في سبتمبر ٢٠١٣ .. وانخرط الحزبان اللدودان فيما عرف بحوار الوثبة ومعهما فصائل أخرى معارضة وكان ذلك في يناير ٢٠١٤ .. وعاد المؤتمر الشعبي للمشاركة في حكومة الحوار الوطني الموسعة ..لحين سقوط النظام (رَبْ) في أبريل ٢٠١٩ .. وعادت المياه لمحاربها بين الرجلين ليتشاركا كيكة السلطة (بقصرها وكوبرها) وهذه العودة لهي أكبر دليل على أن صراع مفاصلة ١٩٩٩ كان صراعاً من أجل النفوذ السياسي ولا علاقة له بالحريات العامة ومباديء الحكم الرشيد.
أعلن الرئيس السابق عمر البشير تخليه عن رئاسة حزب المؤتمر الوطني قبيل سقوط نظام الإنقاذ في فبراير ٢٠١٩ وفوّض صلاحياته لمولانا أحمد هارون في رئاسة الحزب .. واعتقلت سلطات ثورة أبريل معظم قيادات الصف الأوّل لحزب المؤتمر الوطني بما فيهم الرئيس المفوّض (أحمد هارون) وأمين عام الحركة الإسلامية المساندة لحكومة البشير – الشهيد/ الزبير أحمد الحسن .. وكَلَّف مولانا أحمد هارون بعد اعتقاله بروفيسور إبراهيم غندور لرئاسة حزب المؤتمر الوطني الذي اعتقِل لاحقاً فاجتمع مجلس الشورى وانتخب المهندس إبراهيم محمود رئيساً مكلّفاً لحزب المؤتمر الوطني (بالمناسبة انتهى أجل دورة مجلس شورى المؤتمر الوطني وكل هياكله في عام ٢٠٢٠ واستمر المجلس في العمل بسبب الظروف السياسية غير المواتية وبسبب حل حكومة حمدوك لحزب المؤتمر الوطني).
وعلى صعيد الحركة الإسلامية قام الأستاذ على كرتي – نائب الأمين العام والذي تولّى قيادة الحركة عقب اعتقال الشهيد الزبير أمين عام الحركة – بتكوين منظومة حركية رشيقة تتولّى إدارة العمل التنظيمي عن حزب المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية.
أقرّ مجلس شورى المؤتمر الوطني .. في العام الماضي إعادة المسئولية السياسية لأحمد هارون رئيس المؤتمر الوطني المفوّض بعد خروجه من المعتقل عقب تمرد الدعم السريع في أبريل ٢٠٢٣ وشكّكت مجموعة إبراهيم محمود في نصاب هذه الشورى مما أدّى لحدوث مناوشات بين مجموعة السيد إبراهيم محمود ومجموعة على كرتي حول رئاسة حزب المؤتمر .. ولم يصل الأمر لانشقاق أو مفاصلة بسبب غياب الألق الفكري للانشقاق الأوّل وغياب الحيوية الحركية لمفاصلة ١٩٩٩ ولا يعدو عن كونه مماحكة باهتة في وقت غير موائم ولن يستفيد من هذا الصراع سوى المعسكر القحجويدي “المدخلي” والمجلس العسكري وسوف يتمتع الأخير بسلطة هانئة بعيداً عن سطوة الإسلاميين المشغولين بأنفسهم.
سوف يشهد التاريخ للسيد على كرتي أنه استطاع قيادة الحركة الإسلامية والمؤتمر الوطني في أحلك الظروف عقب سقوط نظام البشير وذلك عبر المنظومة المشتركة التي استحدثها .. وهي آلية عبقرية استطاعت أن تحفظ كياني الحركة والحزب ..
كيف يخرج الإسلاميون من التنازع الحالي حول رئاسة الحزب؟
الحلول تتمثل في إيجاد حلٍّ توافقي يجعل من أحمد هارون رئيساً للحزب وإبراهيم محمود نائباً له.
فإن تعذر ذلك يمكن قيام حزبين منشطرين للمؤتمر الوطني .. لحين قيام المؤتمر العام وكلا الحزبين سينالان عضوية التيار الإسلامي العريض وينال كل منهما رئاسة دورية لذلك الكيان وسيكون الحزبان توأماً سيامياً فاعلاً في محاربة العلمانية المسلحة الانتهازية القحتجويدية ولا أطنّ أنّ هذا الانشقاق سيؤثر على قواعد الحزب أو مستنفريه المشاركين في حرب الكرامة. وفي تقديري فإنّ أحد شطري هذا التوأم السيامي سوف يموت موتاً سريرياً بمرور الوقت وسيعود المؤتمر الوطني حزباً موحّداً رائداً قائداً ليتفرّغ لمرحلة البناء وكنس مخلفات مرحلة ما يسمّى بثورة أبريل البائسة.
ولكن يجب على قيادات المؤتمر الوطني الفكرية تحليل جذور هذه المشكلة التي أدت لتكبيل المؤتمر الوطني عن أداء دوره بفاعلية أكبر بسبب الفوضي الإدارية والتنظيمية فتقاصر عن دوره في تأجيج معركة الكرامة وشحذ الهمم وتسعيرها.
وفي رأيي أنّ من مسببات هذا الصراع أنّ بعض قيادات المؤتمر الوطني (الرئيس البشير وعلي عثمان ونافع على نافع) صارت هي المرجعية الحزبية للمؤتمر الوطني وبؤراً للاستقطاب مما جعل ألا قيمة للنظام الأساسي ومؤسسات الحزب لذا فأنا أرى أن تبادر هذه القيادات بالابتعاد عن سدة القيادة والتفرغ لكتابة مذكراتها الشخصية والتفرّغ للعبادة والذكر والتأمّل في ملكوت الله ولابد من تحديد فترات زمنية للوظائف القيادية بالحزب لا تزيد عن دورتين برلمانيتين (١٠ سنوات).
والله يهدي للصواب.
https://open.substack.com/pub/babikirismail/p/243?r=5v35ih&utm_medium=ios
https://whatsapp.com/channel/0029Vb53Ivk5fM5bikGrw32k/120