د. ياسر محجوب الحسين يكتب : *قانون 2009.. تأجيل الجراحة*
- د. ياسر محجوب الحسين يكتب :
*قانون 2009.. تأجيل الجراحة*
في خضم بحر متلاطم من التحولات والاضطرابات، تظهر بشكل غير متوقع مشاريع لتعديل قوانين، حيث انعقدت مؤخرًا ورشة تعديل قانون الصحافة والمطبوعات السوداني لعام 2009 بحضور نائب رئيس مجلس السيادة، في خطوة قد تثير تساؤلات جوهرية حول جدوى التعديل في هذه المرحلة، والأساس الدستوري الذي يمكن أن يُبنى عليه مثل هذا المشروع في ظل مرجعية دستورية مؤقتة وغير واضحة تماما. فالقانون المشار إليه يستمد مرجعيته من دستور 2005، وهو دستور أصبح فعليًا معطلاً نتيجة لانهيار النظام الدستوري بعد اندلاع الحرب في أبريل 2023. وعلى الرغم من أن القانون لا يزال منشورًا في الجريدة الرسمية ويُعامل باعتباره قانونا ساري المفعول، فإن أي تعديل عليه يتطلب إطارا مرجعيا يحدد حدود الحريات الإعلامية ويمنح المشرّع صلاحية واضحة ومشروعة للتعديل، وهو ما لا يتوفر في الظروف الراهنة.
اللافت أن دستور 2005 وقانون الصحافة لعام 2009 كانا نتاج توافق وطني نادر، وحظيا بإجماع سياسي غير مسبوق في تاريخ البلاد الحديث. هذا الإجماع، المعلوم لدى القوى السياسية والمجتمع المدني على حد سواء، يُكسب الوثيقتين وزنًا قانونيا وأخلاقيا ذا طبيعة خاصة، ويجعل من التعديلات المقترحة اليوم خطوة حساسة في غياب التوافق الوطني الذي أنتجهما. ومن ثمّ، فإن القانون الحالي، رغم الانتقادات الموجهة له، قد يكون الأنسب مرحليا، سواء من حيث المشروعية أو التوقيت.
من زاوية عملية، وفي ظل الواقع السياسي المنقسم وغياب المؤسسات المنتخبة، فإن الإبقاء على القانون الحالي قد يكون الخيار الأجدر. فهو، رغم تحفظات بعض الجهات الحقوقية، ينص على عدد من الحقوق المبدئية للصحفيين، منها الإقرار بدورهم الرقابي، وتنظيم المهنة، وحق الحصول على المعلومات، وإن كان هذا الحق مشروطا. كما أن أغلب الانتهاكات التي طالت الصحافة في الثلاث سنوات العجاف الأخيرة لم تكن نتيجة مباشرة لتطبيق القانون، بل لأوضاع أمنية معلومة وانفلات ممنهج استهدف الإعلاميين من قبل مليشيا الدعم السريع، التي وثقت منظمات دولية مسؤوليتها عن حوادث قتل واعتقال ومطاردة لصحفيين أثناء أداء مهامهم.
أما الصحافة الإلكترونية، التي لم يشملها نص قانون 2009 صراحة، فليست خارج نطاق التنظيم بالضرورة. إذ يمكن – دون الحاجة إلى تعديل القانون – إصدار قرارات تنظيمية وزارية أو توجيهات مهنية تعترف بها كامتداد طبيعي لتطور وسائل الإعلام، وتضع شروطًا مهنية مبسطة لتسجيلها أو التعامل معها، بعيدًا عن عبء الترخيص الكامل المفروض على الصحف الورقية. وبهذا، يُمكن احتواء هذه الظاهرة الحديثة بذكاء تشريعي مرن، مستفيدين من اللوائح التفسيرية وصلاحيات التنظيم الإداري، دون المجازفة بفتح باب التعديل في ظروف غير ناضجة دستوريًا ولا سياسية. إنه حل مرحلي واقعي، إلى حين تتهيأ البلاد لبيئة تشريعية شاملة تُنظم فيها الحريات بعمق واستدامة.
الورشة ذاتها لم تحظ بمشاركة واسعة من أصحاب الخبرة، إذ غابت عنها أصوات مهنية مهمة بسبب النزوح واللجوء الذي فرضته الحرب، وهو ما يحدّ من دائرة النقاشات حول مخرجاتها ويقلل من تمثيلها للوسط الإعلامي في عمومه. وقد فوجئ بانعقاد هذه الورشة الكثير من المعنيين من ذوي الكفاءة والخبرة، ممّن كان يُفترض إشراكهم في النقاش والتداول حول تعديل قانون يُعد من الأدوات الحاسمة في رسم مستقبل الصحافة في البلاد. هذا الغياب اللافت للمعنيين، لأسباب قسرية تتعلق بالوضع الأمني في البلاد يطرح علامات استفهام حول جدية التمثيل والتشاور في هذا المسار.
وفي السياق الأوسع، تكشف التجارب الدولية عن أهمية الإطار القانوني المستقر والمتفق عليه في دعم حرية الصحافة. بيد أن الصحافة السودانية ليست بحاجة إلى تعديل قانوني جزئي أو تجميلي، بل إلى إعادة تأسيس المشهد السياسي والدستوري بما يضمن حرية الإعلام كحق غير قابل للمساومة. وفي هذا السياق، فإن احترام ما تم التوافق عليه في السابق، كقانون 2009 ودستور 2005، يُعد منطلقًا واقعيًا لأي إصلاح مستقبلي. أما الآن، فإن الأولوية القصوى يجب أن تُمنح لحماية الصحفيين من الاستهداف، ولضمان بقائهم على قيد الحياة، قبل التفكير في إعادة صياغة القوانين.
نُقدّر للأخ الزميل المجتهد خالد الأعيسر، وزير الإعلام، جهوده في إصلاح الواقع الإعلامي، وفي إطار معرفتنا بترحيبه بالآراء المخلصة وسعة صدره، فإننا نضع هذا الرأي ضمن هذا السياق البنّاء الذي نأمل أن يُؤخذ في الحسبان ضمن عملية الإصلاح القادمة.
* *الحرية للصحفي عطاف عبد الوهاب*
الثلاثاء 27/05/2025
مقالات أخرى للكاتب:
https://shorturl.at/oKXld