منصة السودان الأولى
التواصل الاجتماعي

عوض الله نواي يكتب : *المحسوبية في الخدمة المدنية السودانية: سرطان يُهدد مؤسسات الدولة*

0

عوض الله نواي يكتب :

*المحسوبية في الخدمة المدنية السودانية: سرطان يُهدد مؤسسات الدولة*

عوض الله نواي

مقدمة

في تصريح لافت، أكد رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق أول عبدالفتاح البرهان أن المحسوبية أصبحت ظاهرة بارزة في الخدمة المدنية خلال فترة حكم قوى الحرية والتغيير. فقد بات تعيين الأقارب والمعارف في المناصب العامة يتم على حساب الكفاءة، مما ساهم في ترسيخ الفساد المنهجي وتراجع فعالية مؤسسات الدولة.

لقد تحولت المحسوبية إلى واحدة من أخطر معاول الهدم الإداري في السودان، مهددةً بنسف الجهود الرامية إلى بناء دولة حديثة تقوم على معايير الكفاءة والشفافية.

المحسوبية: ظاهرة الفساد الممنهج

المحسوبية ليست مجرد تجاوز أخلاقي عابر؛ بل هي نظام خفي يقوم على استبدال معايير الجدارة بالمحاباة والعلاقات الشخصية. حين تُمنح الوظائف العليا بناءً على الصلة العائلية أو السياسية، لا على الكفاءة والخبرة، تضعف المؤسسات، ويفقد المواطنون ثقتهم في أجهزة الدولة.

في السودان، وبعد سقوط نظام البشير، كان يؤمَّل أن تكون المرحلة الانتقالية بداية لعهد جديد. إلا أن الواقع أثبت أن ثقافة المحسوبية لم تتغير جذرياً، بل انتقلت بوجوه جديدة. فقد شاعت قصص تعيين الوزراء والأمناء العامين والمستشارين على أسس القرابة والانتماء الحزبي، وأُهملت الكفاءات والخبرات الوطنية.

أمثلة محلية

رصد مراقبون ممارسات تعيين مشبوهة شملت وزارات سيادية ومؤسسات حيوية، حيث جرى تمكين الدوائر الضيقة للمسؤولين على حساب المصلحة العامة.
وقد تسببت هذه التعيينات في تدهور الأداء المؤسسي، وإشاعة الإحباط بين الكوادر المؤهلة، مما دفع العديد من الكفاءات إلى الهجرة أو الابتعاد عن العمل العام.

في بعض الحالات، كان السكرتير يُعيّن سكرتيره الخاص، والوزير يُحضر أخاه أو قريبه لمنصب مرموق. بهذا الأسلوب، تحولت مؤسسات الدولة إلى شبه “مزارع خاصة” تخدم شبكة المصالح لا الوطن.

المحسوبية وأثرها على الدول

إن المحسوبية ليست خطرًا نظريًا فحسب؛ بل تسببت في انهيار أنظمة سياسية ودول بأكملها.
• في الصومال، أدى تمكين الأقارب والموالين إلى تفكك الدولة ودخولها في فوضى دموية منذ أوائل التسعينات.
• في اليمن، شكّل تفشي المحاباة في عهد الرئيس صالح عاملاً رئيسيًا في انهيار مؤسسات الدولة وتفاقم الصراعات الداخلية.
• في زائير (الكونغو الديمقراطية حاليًا)، أسقط الفساد الإداري القائم على المحسوبية نظام موبوتو سيكو بعد عقود من الحكم الاستبدادي.

هذه التجارب المؤلمة يجب أن تكون درسًا للسودان، إذ إن تجاهل خطر المحسوبية يفتح الباب أمام انهيار تدريجي لا تُحمد عقباه.

المعالجات المطلوبة

لمعالجة ظاهرة المحسوبية في السودان، لا بد من اتخاذ خطوات عملية وحاسمة، أبرزها:
• تفعيل قوانين النزاهة والشفافية: عبر محاسبة كل من يثبت عليه استغلال المنصب لصالح الأقارب والمعارف.
• إنشاء مفوضية مستقلة للتوظيف: تكون مهمتها الإشراف الكامل على التعيينات وفق معايير مهنية صارمة.
• إرساء ثقافة الجدارة: بحيث تكون الكفاءة والخبرة معيار الترقية والتعيين في كل المستويات الإدارية.
• تمكين الإعلام ومنظمات المجتمع المدني: لرصد تجاوزات المحسوبية وكشفها للرأي العام.
• التزام القيادة السياسية بالإصلاح: بإعطاء القدوة الصالحة، عبر تعيين الكفاءات وإقصاء الموالين غير المؤهلين.

خاتمة

المحسوبية ليست مجرد فساد إداري؛ بل هي سرطان ينخر جسم الدولة ويهدد مستقبلها.
وفي السودان، الذي يواجه تحديات سياسية واقتصادية جسيمة، أصبحت مواجهة هذه الظاهرة ضرورة وطنية لا تقبل التأجيل.

إن بناء خدمة مدنية نزيهة وعادلة هو أساس مشروع الدولة الحديثة. ولا سبيل لتحقيق ذلك إلا بكسر حلقة المحسوبية، وتمكين الكفاءات الحقيقية، وإرساء الشفافية كمبدأ حاكم لإدارة الشأن العام.

قد تكون المعركة صعبة وطويلة، لكنها معركة لا بد منها من أجل سودان أفضل، يسوده العدل، وتحكمه مؤسسات قوية مبنية على الكفاءة لا القرابة

اضغط هنا للانضمام الى مجموعاتنا في واتساب

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.