* الوطن والحكومة الانتقالية: مسؤولية التاريخ وضمير الشعوب* بقلم: موسى داؤد يحي
* الوطن والحكومة الانتقالية: مسؤولية التاريخ وضمير الشعوب*
بقلم: موسى داؤد يحي
كلُّ إنسانٍ يحمل في صدره رسالةً مكتوبةً بحبر الضمير، لا تُخطّها اليد بل ينبض بها القلب… رسالةٌ تتجاوز حواجز اللحظة لتنسج خيوطها في سفر التاريخ، وتُخلّد في ذاكرته من ساروا بثبات، وحملوا قضايا أوطانهم بأمانةٍ لا تضعف أمام بريق السلطة، ولا تنحني لريح المساومة.
فالتاريخ، ذلك الحَكم العادل، لا يكتب إلا سِيَر أولئك الذين جعلوا من قيمهم منارات، ومن وطنيتهم عهدًا لا ينكسر. ولذا، فإن الوقوف في مفترق الوطن، يستوجب منّا صدقًا يُعيد تشكيل الوعي، ويصون الكرامة في زمنٍ تتكاثر فيه الوجوه وتقلّ فيه الضمائر.
هذه الكلمات ليست حروفًا تُقال في المجالس، بل بوصلةٌ أخلاقية، تُشير إلى وطنٍ لا يُباع ولا يُشترى، وطنٍ لا يُقايض في أسواق السياسة، ولا يُحمَّل على أكتاف المصالح. فالوطن ليس صفقة، بل هو يقينٌ راسخ في الأرواح، وهويةٌ لا تُمحى، وسؤالٌ دائم في وجدان الإنسان.
“الوطن” ليس رقعة جغرافية تُرسم على الورق، بل هو الدفء حين تشتدّ قسوة العالم، وهو الحنين حين يغمرنا الغياب، وهو الأمان حين تضطرب الأرواح. هو البيت الأول، والمقبرة الأخيرة، هو الزقاق الذي حفرت فيه خطانا ذاكرة الطفولة، وصوت الأذان في المساء، وهمس الأم بالدعاء، ودمعة المغترب حين يسمع اسمه من بعيد.
وفي معناه السياسي، الوطن هو الدولة التي تنبض بسيادتها، ويقودها نظامٌ لا يستمد شرعيته من القوة، بل من تمثيلٍ حقيقيٍّ لشعبه، ومن عدالةٍ تُنصف الفقير قبل الغني، وتُعلي من شأن المواطن لا المسؤول.
الحكومة الانتقالية في السودان لم تأتِ لتكون مائدة تُوزّع فيها الغنائم، بل وُجدت لتكون منصةً لتأسيس وطنٍ جديد، وطنٍ يتّسع للجميع، لا إقصاء فيه ولا استئثار، وطنٌ يُعيد تعريف الحكم باعتباره تكليفًا لا تشريفًا.
لكن، ويا للأسف، في دروب السياسة من اتّخذوا من الوطن سلّماً للمناصب، وجعلوه مطيّة لأطماعهم، يرفعون الشعارات زورًا، ويلبسون لبوس الثورة كذبًا. أولئك لا يعرفون الوطن، ولا يعون قدسيّته. فالوطن لا يختزل في شعارات، ولا يُختزل في مظاهر، بل يُبنى بالفعل، وبالدمع، وبالعرق، وبالصدق.
البطل الحقيقي لا يُقايض شعبه، ولا يساوم على الكرامة، بل يقدّم نفسه قربانًا للحرية، ويظلّ شاهقًا، لأنّه يحمل في قلبه شعلة الأمل، لا ألسنة اللهب.
وكل من جعل نضاله جسرًا إلى وظيفة، قد أضاع المعنى، وسقط في امتحان الضمير. الوطن لا يُفتدى بالخطب، بل يُبنى بالمواقف، بالتجرد، بالتضحية.
والتاريخ لا يرحم… هو مرآة الحقيقة، لا يُخفي عار الخائنين، ولا يُجامل المتلوّنين. يسجل للذين صدقوا ما عاهدوا عليه، ويفضح كلّ من اتّجر بمآسي الوطن.
وفي زمنٍ يئنّ فيه السودان من وطأة الحرب، ويكاد يتمزّق تحت أنياب الطامعين، لا بدّ من رجال دولة لا يخافون في الحقّ لومة لائم، رجالٍ جعلوا من الوطن محرابًا، ومن الناس قضيّة، ومن السياسة أداة إصلاح لا وسيلة تسلّط.
إنّ ما نشهده اليوم هو انعكاسٌ صارخٌ لعجز المشروع السياسي، وهشاشة القوى التي تدّعي تمثيل الشعب، بينما هي أبعد ما تكون عن نبضه، عن ألمه، عن طموحه. فقد تجرّدوا من كلِّ ما هو وطني، وارتدوا عباءة الانتهازية دون خجل.
ولهذا، فإن السودان في أمسّ الحاجة إلى لحظة تأسيس جديدة، لحظة تُبنى على التوافق لا الانقسام، على الإرادة لا الإملاءات، لحظة يُعاد فيها للوطن مقامه الأسمى، فيكون هو المبتدأ والمنتهى، لا وسيلةً لتمكين ولا مطيّةً للمصالح.
✦ فالوطن ليس شعارًا نردّده… بل هو امتحانٌ يوميٌّ للضمير.
✦ الوطن ليس لافتةً تُعلّق على الجدران… بل هو وصيّةُ التاريخ.
✦ الوطن أمانة، وحُكمُه تكليف، والسيادة فيه للشعب، لا للساسة المتكالبين.
فهل نُدرك قيمة هذه اللحظة، ونكتب سطور الخلاص؟ أم نترك للتاريخ أن يكتب عنا بما لا يُنسى؟
القرار في يد الضمائر، والتاريخ يترقّب.