حوارات حول الأفكار…(127) ✍️ حيدر معتصم *الدولة السودانية … بين الإصلاح وإعادة التأسيس*
حوارات حول الأفكار…(127)
✍️ حيدر معتصم
*الدولة السودانية … بين الإصلاح وإعادة التأسيس*
يعيش السودان اليوم مأزقًا تاريخيًا يتجاوز حدود الصراع التقليدي حول “من يحكم السودان؟” أو حتى “كيف يُحكم السودان؟”، إذ انتقل الصراع إلى منطقة أكثر تعقيدًا وخطورة، وهي: “ما هو السودان؟ ومن هم السودانيون؟”. هذا التحول العميق يعكس انتقالًا من خلافات حول الأشخاص والهياكل إلى صراع حول الهوية والمرجعيات التأسيسية للدولة نفسها.
لقد بدأ الصراع السوداني منذ الاستقلال بمسارات قبلية وشخصانية، تمحورت حول الزعامات والأحزاب الطائفية، وانتقل لاحقًا إلى خلافات حول نظم الحكم وهياكل السلطة. لكن ما نشهده الآن هو تحول الإختلاف السياسي إلى خلاف بل إلي صراع أيديولوجي محتدم على تعريف الوطن، وهوية الدولة، ومن يملك شرعية تمثيلها.
هذا الصراع لم يعد يدور حول إدارة الموارد أو توزيع السلطة، بل حول من له الحق في رسم ملامح الوطن وتحديد ثوابته. وفي هذا السياق، تبدو محاولة إصلاح الدولة عاجزة تمامًا، لأن العطب لم يعد في الأداء فقط، بل في الأسس التكوينية نفسها.
إن التحدي الأساسي اليوم لا يكمن في إعادة توزيع السلطة أو اقتسام الكعكة السياسية، بل في ضرورة إعادة تأسيس الدولة السودانية على قواعد جديدة، تتجاوز مرجعيات الانتماءات الضيقة، سواء كانت طائفية، جهوية، أو أيديولوجية.
فالإصلاح يفترض وجود بنية صالحة قابلة للترميم، أما نحن في السودان، فنتعامل مع مشكلة بدأت ببنية مفككة منذ لحظة التكوين الأولي، و ظلت تنتج أزمات وراء الأزمات بدلًا من معالجتها. لذا فالحل يكمن في تفكيك هذه البنية المعيبة وإعادة تركيبها من جديد، انطلاقًا من عقد اجتماعي جديد، يضع المواطنة، والشراكة، والهوية الجامعة في قلب التأسيس.
في وقت انتقل فيه العالم من الولاءات الأولية إلى مفهوم الدولة الوطنية الجامعة. فبينما تطور وعي الأمان عالميًا من القبيلة إلى القارة، ما زال العقل الجمعي السوداني قابعًا في خانة القبيلة، بسبب تخلف النخب عن قيادة التحول نحو الدولة الحديثة.
من المهم هنا التأكيد على أن العقلية القبلية ليست وصفًا للقبيلة كمكون اجتماعي أصيل و هام في معركة بناء الدولة نفسها، بل تعبير عن نمط تفكير سياسي بدائي يرى في القبيلة مصدر الأمان والحماية و الشرعية كنتيجة طبيعية للخمول الذهني و ضعف القدرة على الإرتقاء و إدراك مفهوم الدولة كوعاء جامع لكل القبائل و الإثنيات و الجهويات و الطوائف و الأيدلوجيات محكوم بإطار مرجعي مشترك.
إعادة التأسيس ليست ترفًا فكريًا، بل ضرورة وجودية. نحن بحاجة إلى مشروع وطني جامع، يؤسس لعقلية دولة، ويُقصي عقلية الغنيمة، ويضع حدًا لزمن الإقصاء والاستئصال. وهذا المشروع لا يمكن أن تنجزه النخب السياسية وحدها، بل يتطلب صحوة مجتمعية كبرى تقودها مؤسسات مدنية و أهلية راسخة وجامعة… نواصل.
8فبراير 2024