✍️د. الشاذلي عبداللطيف *قبل أن نُعمّر الوطن… فلنُصلح الإنسان أولًا*
✍️د. الشاذلي عبداللطيف
*قبل أن نُعمّر الوطن… فلنُصلح الإنسان أولًا*
الجميع يتحدث عن “إعادة إعمار ما دمرته الحرب”، وكأن الحرب مرّت بخجل على البشر، واكتفت بهدم الجدران. كأن البيوت وحدها هي من اشتكت، بينما الإنسان السوداني ظلّ صامدًا، يبتسم وهو يتفتت، ويقول: “الحمد لله” دون أن يعرف بالضبط على ماذا يشكر.
نُصلّح المدارس، نعم، لكن العقول فيها تؤجّل التفكير إلى إشعار آخر. نُعبّد الطرق، بينما طرق التفكير نفسها تحوّلت إلى حفر عميقة مليئة بالشك والخرافة. نرفع لافتات المصالحة، بينما القلوب تخوض حروبها الأهلية بصمتٍ محترف.
الأنكى من ذلك؟ أننا جميعًا “نبدو بخير”، وهي المرحلة النهائية من الإنكار الجماعي؛ حيث يتخرّج المواطن بشهادة: “أنا ما فيني شيء، بس بحب أصرخ لما أسمع موتر”.
منذ الاستقلال، نجحنا في شيء واحد فقط: التغافل المنظّم. جلسة العلاج الجماعي التي كان يجب أن نبدأها بعد أول انقلاب، ما زالت مؤجلة بقرار سيادي. والنتيجة؟ جيل كامل يحفظ النشيد الوطني، لكنه لا يعرف إن كان يحب الوطن أم يخاف منه.
نحن أمة لا تفتقر إلى الطوب، بل إلى الطمأنينة. لا ينقصنا الأسمنت، بل الإحساس. وحتى عندما نقرر الإعمار، نبدأ من السقف لا من الأساس. نعشق إصلاح الأعمدة قبل النفوس، ونتعامل مع الإنسان كأنه تفصيلة جانبية… كمفرش طاولة في مشروع الدولة الحديثة.
الإنسان نفسه – أعزّ ما نملك نظريًا – أصبح يعتقد أن الشعور بالألم “قلة إيمان”، وأن السؤال عن العدالة “قلة أدب”، وأن النقد “مشروع تمرد”. باختصار: تعلّمنا الصبر على كل شيء… إلا التفكير.
نتحدث عن “الهوية الوطنية”، فنختلف أولًا على تعريف “الوطن”، ثم على تاريخ نشأته، ثم على لهجته، ثم على من نال شرف الولادة فيه أولًا. وحينها فقط نكتشف أننا لا نحتاج إلى هوية، بقدر ما نحتاج إلى مترجم بين مكوناتنا.
أما العدالة، فهي لدينا أقرب إلى فكرة أدبية نبيلة؛ شيء نتغنّى به في الشعر، ثم ننساه تمامًا حين نرى طابورًا أو “واسطة”. لدينا عدالة موسمية، تظهر فقط عند زيارة الوفود، ثم تذوب كثلج البيان الختامي.
الشباب؟ أحسن ناس. لكننا نطلب منهم أن ينقذوا البلاد دون أن نسمح لهم بقيادة دراجة نارية. نمدح طاقتهم في الخطابات، ثم نحاصرها في الواقع بإعلانات توظيف تبدأ بـ: “يشترط خبرة عشر سنوات في مجال لا يوجد أصلًا”.
والنساء؟ أبطال الحكاية المنسيّون. بطلات في الحروب، وسطر هامشي في وثائق السلام. يداوين بملح الأرض، ثم يُطلب منهن العودة للمطبخ بعد المؤتمر. نحبّهن ما دامت صورتهن على “بوستر التغيير”، وننساهم حين تُقسَّم السلطات.
أما المصالحة، فعندنا غالبًا “فقرة ترفيهية” بين ورشة وأخرى. نُصافح بعضنا في الصورة التذكارية، ثم نعود لنطعن في نوايا بعضنا على “الجروبات”. نريد مصالحة لا تبدأ بـ: “نحن شعب متسامح”، بل بـ: “نحن شعب أخطأ، ويبحث عن بداية نظيفة لا ورقة نظيفة”.
الإعلام؟ متخصص في إخفاء الواقع تحت طبقات من المكياج. والتعليم؟ بارع في تحويل الطفل إلى آلة تكرار بلهاء. نُدرّس التاريخ، لكننا نخشى منه. نُعلّم النحو، لكن نكسر كرامة الطالب. والنتيجة: خريج لا يعرف لماذا يكره البلد، لكنه متأكد أنه لا يريد أن يموت فيه.
أما الخطاب السياسي، فهو فن رفع المعنويات بالضرب على الرأس. خطاب لا يُقاس بصدقه، بل بارتفاع نبرة الصوت فيه. والمطلوب الآن ليس وعودًا بالجنة، بل أن نقول ببساطة: “الوضع صعب… بس ما بنضحك عليكم”.
أخيرًا، السياسة لدينا تحتاج أن تدخل سن البلوغ؛ أن تتحول من مشاجرة إلى مسؤولية، من تهديد إلى حوار، من حرق إلى بناء. نحتاج إلى معارضة لا تُشعل الحريق ثم تبيعنا الماء، وإلى سلطة لا تعتقد أن الوطن “ورث شرعي” لا يُناقَش فيه أحد.
نحن لا نعاني من نقص في الحديد أو الأسمنت، بل من مادة أولى تُدعى “الضمير”. وهي نادرة جدًا، لا تُستورد، ولا تُنتَج في المصانع. تُزرع فقط في العقول الحرة، والقلوب التي لا تخاف من الحقيقة.
إذا أردنا فعلًا أن نُعمّر ما دمرته الحرب، فلنبدأ من الإنسان:
من عقله، من مشاعره، من ذاكرته، من ضحكته، من خوفه، من كلمته.
فلنُصلح الإنسان أولًا، لأن الجدران لا تحمي وطنًا… إن كان من فيه مكسورًا.