منصة السودان الأولى
التواصل الاجتماعي

خارج النص *30يونيو* *يوسف عبدالمنان*

0

خارج النص

*30يونيو*

*يوسف عبدالمنان*

في مثل هذا اليوم من عام تسعة وثمانين من القرن الماضي، هبّت على الخرطوم رياح سياسية عصفت بتجربة ديمقراطية قصيرة، تعثرت في وحل الخلافات الأيديولوجية، وحاصر التمرد الجيش في تخوم الشمال لا الجنوب. برزت تحالفات بين البندقية الجنوبية والأحزاب الطائفية واليسارية، وقدّرت نخبة الضباط الإسلاميين الإطاحة بحكم السيد الصادق المهدي في مغامرة حسبها البعض ستتعثر بعد أيام أو شهور وتسقط بسبب حالة الضيق الاقتصادي الذي كانت تعانيه البلاد. لكن من الضيق والهزيمة العسكرية في ميادين القتال في الجنوب، نسجت الإنقاذ خيوط الانتصار وأسباب البقاء بالاعتماد على النفس، فلم تتسول القمح أو تريق ماء الوجه من أجل البترول، بل حاربت وانتصرت، وحوصرت وصمدت، وقاطعها الغرب وانفتحت شرقًا.

فاوضت الميرغني ووضعت الحزب الاتحادي الديمقراطي في جيبها الصغير، وأغرت المهدي وجعلته يراوح بين الملازمين والقصر، وحالفت رياك مشار وقاتلت معه جون قرنق، ووقعت مع فصيل من جبال النوبة، ووقعت مع قرنق اتفاق السلام، وتبعه التجمع الوطني الديمقراطي وحركة تحرير السودان الدارفورية. قالت “لا” لأمريكا والسعودية ومصر، ولم تهاب تبعات موقفها، وقال البشير إن واشنطن تحت حذائه، وطُرد سفير بريطانيا من الخرطوم في رابعة النهار الأغر.

شرب الناس في سنوات الإنقاذ الأولى شاي الصباح ببلح القرير، وزُرعت الأرض واخضرّ اليابس، وانتصر الجيش في كل معاركه بالجنوب، ودفن التيار الإسلامي آلاف الشهداء في تراب السودان، وتدفّق البترول، وتطاولت العمارات، وشُيّدت الجسور، وشقّ الأسفلت الصحاري، وأصبح البص أبو قرون يصبح في أم درمان ويمسي في الفاشر. غنّى وردي وحمد الريح، ولعبت الجزائر ومصر فاصلة كأس العالم بأم درمان، وحصد المريخ كأس مانديلا، وبلغ الهلال نهائي البطولة الأفريقية الكبرى، وأصبح السوق العربي يضج بالوافدين من مصر وإثيوبيا، وازدهرت الصحافة والإعلام، وعقد الحزب الشيوعي مؤتمراته في قاعة الصداقة قرب مكتب البشير.

وحينما تقمصت روح الملوك البشير، قرّبه إليه مشايخ الخليج، وحرضه الصغار على الكبار، وأبعد أهل الرأي والفكر، وقرب عشيرته وفقهاء السلاطين، وداس على الحزب الذي جاء به من البدو بقدميه. دعا البشير في عطبرة الجيش للاستيلاء على السلطة علنًا، وتلك أول سابقة في التاريخ أن يدعو رئيس خصومه للانقلاب عليه. ولم تمضِ أيام حتى وُضع البشير في سجن كوبر، وبدد كل ما صنعته حركة الإسلام من إنجازات، وترك الرجال الذين ساندوا ظهره لثلاثين عامًا يواجهون السجون والموت بالكورونا في المعتقلات، ومصادرة أموالهم ظلمًا وحيفًا.

هكذا صعدت الإنقاذ وهكذا سقطت، وتلك هي أقدار التاريخ وحكمة الله في أرضه. ومن تجربة الإنقاذ التي هي الآن كتاب مفتوح، يستلهم حكام اليوم الدروس والعبر لحاضرهم ومستقبلهم. تمرّ اليوم ذكرى الإنقاذ كالوردة بلا عطر، وقد غرقت البلاد في الدم والحروب المهلكة، بعد أن بطرت بمعيشتها فأورثها الله الخوف والجوع. باتت الأرض تنتقص من قلبها لا من أطرافها، وحصدت حرب آل دقلو حتى الآن ما لا يقل عن المليون من أهل السودان، ولا يزال شبح فقدان ملايين أخرى يلوح، وصقور الموت تحلق فوق رؤوسنا.

في ذكرى الإنقاذ نناشد الفريق البرهان أن يعفو ويصفح ويطلق سراح الضباط القادة المحتجزين في المعتقلات، فقد جبت الحرب ما قبلها، وما عاد البشير وعبد الرحيم محمد حسين ويوسف عبد الفتاح يشكلون خطرًا على حكومة البرهان التي عبرت نصف طريق الأشواك وتبقى لها النصف الآخر. البشير ورفاقه ينتظرون فقط أحكام التاريخ الذي سجّل ما لهم وما عليهم، والدنيا قضت غرضها، ولن يعود البشير الذي كل ما يتمناه الآن أن يخرج إلى رحاب الحرية، ويطوف على بيوت الأفراح والأتراح، ويحكي حلو الذكريات ومرّها. فهل يحقق له البرهان تلك الأمنية؟ عسى أن يفتح بذلك طريق تحرير رفاق “الكاكي” من السجن نفاجًا قد يحتاج إليه في يوم كريهة. فالأيام دول، من سرّه زمن ساءته أزمان، وفي سيرة البشير عبر ودروس.

اضغط هنا للانضمام الى مجموعاتنا في واتساب

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.