خبر و تحليل – عمّــار العـــركي *القرن الإفريقي.. صراع التأثير بين أنقرة وأبوظبي وغموض القاهرة*
خبر و تحليل – عمّــار العـــركي
*القرن الإفريقي.. صراع التأثير بين أنقرة وأبوظبي وغموض القاهرة*
تشهد منطقة القرن الإفريقي تحولات استراتيجية لافتة في السنوات الأخيرة، زاد من وتيرتها الفراغ الغربي النسبي، وتنامي الصراعات المحلية والإقليمية. وفي هذا السياق، بدأت قوى إقليمية ودولية إعادة التموضع عبر شراكات وتحالفات ذات طابع أمني وعسكري واقتصادي. ولعل ما يحدث حاليًا بين إثيوبيا وتركيا والإمارات ومصر يُعد مؤشرًا على مرحلة جديدة من التنافس والنفوذ. هذه القراءة تضع هذه التحركات في سياقها الجيوسياسي الأشمل، مع تسليط الضوء على انعكاساتها المباشرة وغير المباشرة على دول الجوار، وخاصة السودان.
*أولًا: إثيوبيا وتركيا.. عودة التحالف الاستراتيجي*
* في توقيت بالغ الحساسية، استقبلت أديس أبابا زيارة لافتة لرئيس هيئة الأركان التركية، لتكون تتويجًا لمسار متصاعد من الشراكة العسكرية بين الجانبين. وتأتي هذه الخطوة بعد سلسلة اتفاقيات وقعت سابقًا، أبرزها اتفاقية التعاون العسكري والتقني الموقعة في 2021. كما ان توقيت هذه الخطوة يحمل عدة دلالات:
* رسالة دعم سياسية وعسكرية تركية لأديس أبابا في ظل تصاعد الضغوط الغربية على إثيوبيا بعد النزاع في تيغراي والموقف الإثيوبي من سد النهضة.
* ملء الفراغ الذي خلفه انسحاب القوات الإثيوبية المشاركة في بعثة الاتحاد الأفريقي في الصومال (ATMIS)، وتقديم تركيا كبديل لوجستي وعسكري فاعل، مع مؤشرات على تحرك مصري لتعزيز حضوره العسكري مستقبلاً.
* تأكيد تركي على التوسع في القرن الإفريقي، ليس فقط عبر البوابة الصومالية، بل من خلال علاقات متينة مع إثيوبيا، القوة الديموغرافية والعسكرية الأهم في الإقليم.
*ثانيًا: أبوظبي و”التوغل الوقح” في الصومال*
* تواصل الإمارات سياسة التوغل في الصومال، متجاوزةً الحدود المقبولة للدور الإقليمي، عبر بوابة إقليم “بونتلاند” المتمرد، حيث وقّعت اتفاقًا مثيرًا للجدل مع شركة إماراتية لإدارة موانئ الإقليم، دون موافقة الحكومة الفيدرالية في مقديشو. هذا السلوك يُفجّر تساؤلات على شاكلة : هل تخطط أبوظبي لتعزيز نموذج “الدول داخل الدولة” في الصومال؟ هل تستثمر الإمارات في الانقسامات الفيدرالية كممر لتثبيت نفوذها التجاري والعسكري؟ هل يمثل ذلك تحديًا صريحًا للسيادة الصومالية و مؤشرًا على نوايا تقسيمية أبعد من مجرد استثمار ؟ بالتالى ، من المؤكد أن هذا النهج الإماراتي يُغضب تركيا، التي ترتبط بعلاقات استراتيجية مع الحكومة المركزية في مقديشو، ما قد ينقل التنافس إلى مربع أكثر حدّة.
*ثالثًا: الغياب المصري أو الحضور الغامض؟*
* رغم أن القاهرة معنية استراتيجيًا بما يحدث في القرن الإفريقي، فإن حضورها في المشهد يبدو غامضًا أو محدود التأثير، ما يثير علامات استفهام حول مقاربتها الجيوسياسية.
* المفارقة أن أبرز ما تم رصده في الآونة الأخيرة هو ما نُسب إلى مصادر دبلوماسية عن وجود مؤشرات متقدمة على إرسال قوة مصرية قوامها حوالي 10,000 جندي إلى الصومال، في إطار ترتيبات تعاونية مع الأمم المتحدة والحكومة الصومالية، لتحلّ محلّ القوات الإثيوبية المنسحبة.
* إذا تأكدت هذه التحركات، فإنها تمثل تحوّلًا كبيرًا في نمط التدخل المصري، لكنها تظل غامضة وغير مصحوبة برؤية متكاملة، مقارنة بما تبذله أنقرة وأبوظبي من جهود ممنهجة ومعلنة.
*رابعًا: السودان.. انعكاسات ومآلات واستحقاقات*
* وسط هذا الزخم المتصاعد في القرن الإفريقي، يبرز سؤال جوهري: *أين السودان من كل ذلك؟* رغم أن السودان يجاور إثيوبيا، ويرتبط معها بملفات شديدة التعقيد (الحدود – سد النهضة – ملف اللاجئين)، فإن الخرطوم لم تُظهر حتى الآن مؤشرات واضحة على تموضع استراتيجي يعكس ما يجري في محيطها. ، لكن هذه التحركات تفرض على السودان جملة من الاستحقاقات:
* إعادة ترتيب العلاقة مع إثيوبيا على قاعدة الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة، خاصة أن انفتاح أديس أبابا على تركيا قد يعيد تشكيل المعادلة الإقليمية ويُقصي أطرافًا غير فاعلة.
* التحرك الدبلوماسي تجاه أنقرة، ليس لمجرد مجاراة الدور التركي، بل لبناء علاقة متوازنة يمكن أن تكون مدخلًا لشراكات اقتصادية وأمنية تُعزّز موقف السودان في الإقليم.
* رصد التمدد الإماراتي المقلق في الإقليم، خاصة مع وجود مؤشرات قوية على دعم أبوظبي لحركات مسلحة داخل السودان، ما يتطلب ردًا دبلوماسيًا حاسمًا.
* إعادة قراءة الوجود المصري في الصومال، الذي قد يحمل رسائل مزدوجة في ظل التوتر الصامت بين الخرطوم والقاهرة، خصوصًا فيما يتعلق بمواقف الأخيرة من الأزمة السودانية.
*تحديثات ميدانية: تصعيد أمني ودلالات عسكرية*
* في خضم الحراك السياسي المتسارع، شهدت المنطقة تطورات لافتة شملت زيارة رئيس هيئة الأركان التركية إلى أديس أبابا، وزيارة ولي عهد أبوظبي، الشيخ محمد بن زايد، إلى أنقرة، إلى جانب إعلان إثيوبيا القضاء على خلية داعشية داخل أراضيها، في خطوة تحمل أبعادًا أمنية إقليمية مرتبطة بالسياق العام للصراع على النفوذ وتبادل الرسائل في منطقة القرن الإفريقي.
*الإعلان رسمياً عن مواجهة “داعش” في إثيوبيا ورسائل إقليمية*
* في الأيام الأخيرة، أعلنت السلطات الإثيوبية رسمياً عن اعتقال 82 عنصراً من تنظيم داعش داخل البلاد، بينهم من تلقوا تدريباتهم في إقليم بونتلاند الصومالي. وأكدت أن هؤلاء كانوا يخططون لتشكيل خلايا نائمة وتنفيذ عمليات إرهابية داخل العاصمة أديس أبابا وأقاليم أخرى ذات طبيعة أمنية هشة.
* هذا الإعلان لا يمثل مجرد تحرك أمني داخلي، بل يحمل رسائل إقليمية عدة: تأكيد قوة الأجهزة الأمنية الإثيوبية في مواجهة التهديدات الإرهابية، مما يعزز شرعية الحكومة في سياق الصراعات الإقليمية.
* تحذير ضمني للقوى الإقليمية من التدخلات غير المنضبطة في منطقة القرن الإفريقي، خاصة مع تصاعد التنافس بين أنقرة وأبوظبي.
* تعزيز دور إثيوبيا كلاعب أمني أساسي في محيطها، يسعى للسيطرة على ملف الأمن البحري والبرّي بما في ذلك المناطق المتنازع عليها في الصومال.
* دلالة مهمة للسودان والدول المجاورة حول جدية المعركة الأمنية في الإقليم، وتأثيراتها المحتملة على الاستقرار الداخلي والخارجي.
*خـلاصـة القــول ومنتهــاه*
* القرن الإفريقي يتحول إلى ساحة مفتوحة للتنافس بين أنقرة وأبوظبي، مع محاولات متأخرة للقاهرة لالتقاط أنفاسها. وعلى السودان، إن أراد حماية مصالحه، ألا يظل متفرجًا على رقعة الشطرنج التي يُعاد ترتيبها دون وجود حجَر سوداني عليها.
* المرحلة تفرض رؤية خارج الأطر التقليدية، وعلاقات تتجاوز الملفات الثنائية إلى شراكات استراتيجية تُعيد للسودان وزنه وفعاليته، في منطقة تعج بالفرص كما تعج بالمخاطر.