*جعفر شيخ إدريس: منهج التفكير الصحيح (01 من 03)* د. عثمان أبوزيد
*جعفر شيخ إدريس: منهج التفكير الصحيح (01 من 03)*
د. عثمان أبوزيد
مكة المكرمة
في الأحد ٢٠ يوليو ٢٠٢٥
قضيت بضع ساعات يوم أمس في المدينة المنورة تشرفت فيها بالسلام على رسولنا صلى الله عليه وسلم ثم حضرت تشييع الشيخ جعفر شيخ إدريس من المسجد النبوي إلى “جنة البقيع” وهذا هو الاسم الذي يطلقه إخواننا الآسيويون على مقبرة البقيع.
وهكذا يجمعني لقاء نادر مرة أخرى في المسجد النبوي مع الشيخ جعفر بعد أكثر من ثلاثين عامًا من لقائنا الأول، غير أنه هذه المرة مُسجًى على النعش.
أذكر أنه في ذلك اللقاء أخذني من يدي وسألني: لماذا أراك في كل محاضراتي ولقاءاتي معكم تعلَّق تعليقات سالبة؟ ثم بدأ يوجه لي في هدوء نصائح وملاحظات. كانت لحظة صفاء إذ تسللت كلماته إلى نفسي، والحقيقة كان تأثري أنه نصحني في خلوة ولم يحصل أن وجهني في أثناء المحاضرات التي كنت أشغب عليه فيها بسبب (يفاعتي) الفكرية وأنا دون الثلاثين من العمر.
هنالك الكثير ممن كتبوا عن جعفر شيخ إدريس وتناولوا جوانب مختلفة في حياته وشخصيته، وأريد هنا أن أركز على الجانب الفكري، مما شهدته طيلة عملنا معًا في كلية الدعوة والإعلام بجامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض، وبعد ذلك في لقاءاتي المتكررة مع فضيلته بعد عودي للسودان، ثم لقاءاتنا في مكة المكرمة عندما كان أحد الحضور المتألقين في مؤتمرات رابطة العالم الإسلامي.
لماذا الجانب الفكري؟
الشيخ جعفر كان مثالا للمفكر الحصيف. سمعت منه أنه دائم التفكير والمراجعة لما يتوصل إليه من رأي، قد تسمع منه قولا في يوم ثم إذا أبديت موافقتك مع قوله بعد أيام تراه يقول لك: لكني فكرت في الموضوع وعدلت إلى ما هو أفضل.
قدم الشيخ زين العابدين الركابي محاضرات في مقرر دراسي بالمعهد العالي للدعوة الإسلامية تحت اسم (منهج التفكير الصحيح)، وكان المثال الحاضر عنده هو جعفر شيخ إدريس وكتاباته وإسهاماته الفكرية.
وقبل سنوات قابلت في مكة المكرمة الداعية الأمريكي يوسف أستس فذكر لي أن أكثر من تتلمذ عليه في معرفة الإسلام أستاذ من السودان هو جعفر شيخ إدريس. والحقيقة إن التأثير الفكري لجعفر في الشباب بدأ باكرًا منذ التحاقه بالتعليم أول مرة معلمًا بالمعهد الديني في بورت سودان. هذا مما حكاه أحد تلاميذه في المعهد الدكتور محمد صالح محيي الدين رحمه الله، ولا أعلم هل كان التحاقه بالتدريس في المعهد تطوعًا أم بتعيين رسمي. وسمعت من شقيقي الدكتور محمد أبوزيد أنهم في السنة الأولى من الجامعة تلقوا محاضرة من جعفر في منزله بالمقرن في الخرطوم عنوانها: السبب والمسبب، إذ كان جعفر قد أكمل دراسته للدكتوراة في بريطانيا في موضوع (مفهوم السببية في الإسلام) سنة 1970م.
ومع ذلك لم يتشكل مع جعفر تيار فكري منظم، وإن كان له تلاميذ كثر ومعجبون وقد أسرّ لي في أوائل الثمانينيات أنه ينوي إنشاء جماعة خالصة من أوشاب التنظيمات الإسلامية، لكنه لم يفعل، بل إنه دعا في آخر سني عمره إلى تجنب الجماعات والتنظيمات. وقد ذكر لمجلة العصر في حوار معه إنه نصح “أحد الشباب عندنا وهو رجل ذو علم اسمه عبد الحي يوسف بأن لا ينتمي إلى إحدى الجماعات، فابن باز مثلاً والألباني أناس أكبر من الجماعات ولهم تأثير لا ينكر”.
حوار فكري مستمر
ولما كنا في المعهد العالي للدعوة الإسلامية، كلفت في عملي بإعداد ملفات من الصف والمجلات، وطلب شيخ جعفر أن أطلعه على المهم من الأخبار الثقافية والفكرية.
حملت له ذات يوم قصاصة من صحيفة نشرت خبر إسلام روجيه جارودي المفكر الفرنسي الضخم، واهتم بالخبر غاية الاهتمام، وحدثني حديثًا ضافيا عن جارودي. وكنت أكتب في تلك الأيام بمجلة الدعوة السعودية فكتبت مقالا عن جارودي واعتناقه الإسلام غير أن رئيس التحرير أهمل المقال فذهبت إليه وحدثته إن مجلة الدعوة ستكون صاحبة السبق في كتابة مقال عن هذا الموضوع الذي سيكون حديث الناس في القريب العاجل. وبالفعل نقلت عدة مجلات ذلك المقال.
وذات يوم ناولت الشيخ جعفر قصاصة من صحيفة القبس تقول إن كاتب رواية في بريطانيا اسمه سلمان رشدي فاز بجائزة على روايته (آيات شيطانية)، وكنت مترددًا في تقديم القصاصة لعدم معرفتي بأهميتها، ولم يكن سلمان رشدي معروفًا آنئذ. وجدت الشيخ جعفر يقلب القصاصة عدة مرات في يده ويقرأها باهتمام زائد. وقال لي: تعرف إن جمعية في بريطانيا تستشيرني ماذا يفعلون تجاه كاتب روائي سب الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد أشرت عليهم بأن يهملوه لأن التصدي له ربما كان سببًا في ترويج روايته. ودخل الشيخ إلى الداخل وكنا في بيته وأقبل يحمل رواية آيات شيطانية، ثم أردف قائلا: إن وصول خبر رشدي إلى صحافتنا العربية يعني شيئًا واحدًا أن القوم يحضّرون لمعركة، لذا ينبغي للناس أن يجهزوا حملة مضادة ويشحذوا أسلحتهم الفكرية.
وكنت أبادر الشيخ بالأخبار العاجلة، كنا مجتمعين في برج مياه الرياض على عشاء، وافترقنا. ولما فتحت نشرة أخبار لندن الحادية عشرة في راديو السيارة سمعت خبر وفاة السياسي السوداني الشريف حسين الهندي، فوجهت سيارتي نحو بيت الشيخ جعفر وكان يسكن في شارع الخزان، ولحقت به وهو نازل للتو من سيارته، فنقلت له الخبر الذي كان فاجعا له، إذ ربطته علاقة شخصية بالشريف الهندي أيام معارضة حكم الرئيس جعفر نميري.
(نواصل)